noirbeduzz

[noirbeduzz]

[noirbeduzz]

Francesc Català-Roca

[noirbeduzz]

لازَال التَّاريخَ يُوَاصِلَ تِكْرَارَه،

ومَازَالَ الغِطْريفُ أبَى أن يُدْرِكَ ذَلِك.

فقَدْ أسْرَدَ للإنسانِ مُنذُ بُزوغِ الحَضَارةِ أنَّ الإزَاحَة هيَ قَدَرُ الغِطْريفِ إنْ أُسِيءَ، وإنَّ إزَاحَتَهُ مُوجِعةً لا رَأفةَ فيها، لأنَّ منْ نَال نَصيبَهُ من إساءَتِه لمْ يَعُد يَمْلِكُ لِكَيْ يَخسَر، فَقْد سُلِبَ منهُ آنِفًا كلَّ رَفاهيَّتهِ وحقِّهِ من الرِّعايةِ عدَى إرادَتَهُ، وتِلْكَ هيَ عزيمَتَهُ الَّتي تَقُودَهُا الأسَى والألَم.

وإنْ تَبَاهَى الغِطْريفُ بِبَيادِقِه، وترسَانَاتهِ العَظيمَةِ، وبَنَادِقِه الَّتي تَختَرقَ الصَّوتَ والبَهجَةِ قَبْلَ الجَسَد، فإنَّها لا تتَساوَى بِغَضَبِ المَغلوبِ عليهِ القَابِعِ في غيَاهِبَ الأسَى والقَهَرِ، فَهو يَتمكَّنَ منَ تلكَ القِوَى بقوَّةِ الكَلمةِ والغِنَاءِ والشِّعْرِ والحِجَارةِ والرداء المُهتْرِئ، والمَعدَةُ الجَوفاء، وقوَّةِ إرادَتَهُ، حقَّهُ الأخيرِ كمَخلوقٍ يدبُّ في هذا الوجودِ، فإنْ سَقَطَ ميتًا أمَام جَبروتِ الغِطْريفِ، فقد حَظيَ بالمَجدِ ويُشعِلَ فتيلَ الغَضَبِ في نفوسِ اليَتامَى والأرامِلْ، وإنْ غَلبَهُ فإنَّهُ يَنَال مجدَ الحُريَّة تَشكُرَهُ الأجيالَ القَادِمَةِ.

يُسْردُ لنا التَّاريخَ أن الكَثيرَ منَ الغَطَاريفَ والحَضاراتِ لمْ تَسْقُط على يَدِ قِوَى مُحاذيَة لها، بل على أيديْ الأقنانِ والعَبيدِ، الحُفَاةَ والعُرَاة، الغَرقَى بالدُّموعِ والدِّماءَ، المُكبَّلينَ بقيودِ القَهْرِ الَّذي يَخَنِقَ الجَسَدَ والرُّوح، لامُبَاليينَ بالمَصيرَ الحَتمي،

فإنَّ الخَوفَ لمْ يَعُد يُشكِّلَ تهديدٌ بعدَ الآنِ، فَقدْ تشَرَّبوا الخَوفَ، والألَمَ، والقَهَرِ، وأعادَتْ صِيَاغتَهُم لِيَتجلَّوا لمكانَةٍ لا تَعلمَ سوى لُغة العُنْفِ، مَدفوعَةٌ بالنُّزعاتِ الإنتِقَاميَّة لا سَعيًا بالفَوضَى إنمَا لأجَل اسْتِعَادَةِ التَّوازُن، لأجْلِ اسْتِردادِ حقِّ الإقْرَارِ بالوجودِ، لأجْلِ أنْ تُزْهَرَ الأوطَانَ بالزُّهورِ والحَياةِ، بدلاً من الأسلاكِ الشَّائكةِ وأنْ تكونَ مِثَل غيَابَةِ الجُبِّ.

إنْ أُسِيءَ الغِطْريفَ، فإنَّه يَبدَأ بِلَعِبَ الشِّطرنجَ مع القَدَر، ويَبدَأ المُؤقِّتَ التَّنازُليُّ، ولمْ يَتمكَّن أيُّ مَخلوقٍ على القَدَرِ منذُ اليومَ الأوَّل للوجودِ، وإن طَالَت إساءَتهُ فإنَّ القَدَر يَظلُّ يَحاصِرَهُ، إلى أن يَجِدَ ذاتَه وقدْ أصبَح في زَاويَةِ اللَّوحةِ، مُحاصَرٌ لا مَهرَبَ لهُ.

كلَّ عامٍ وإرادَةُ الإنسَانِ تعلوَ كلَّ شيء، وحُريَّتهُ هيَ أثمَن ما يَملك، وكلَّ دَمعةٍ قريبةً وبعيدةً الَّتي سَقَتْ الغَضَب، تنهَمِرُ بَهجةً وتُسْقِيَ الطُمَأنينةِ، وكلَّ مُناجاةِ وصَلواتِ الخَوفِ الَّتي تُلِيت بِشِفَاهٍ مُرتَجفة، تعودُ لِتُتْلَى إمْتِنَانًا، ومَعدة اقتَاتَتْ على الفُتاتِ وخِشَاش الأرضِ تعودُ بِصحَّتها بخيراتِ الأرضِ.

ويُزَال كلَّ شَوقٍ أحْرَقَ فُؤادَ المُحبَّ والمَحبوبِ لِيمْتَلئ بَعضِهم، وكلَّ زَهرةٍ ألقِيتْ على نَعشٍ تُوضَعُ مجدَّدًا على نَافذَةِ منزلٍ، وكلَّ بيتَ شِعْرٍ وتَرنيمَةٍ وسَردٍ تَتغنَّى بالغَضَبِ والشَّوقِ والألمِ تعودُ لِتَتغنَّى بجمَالياتِ الحيَاةِ والأمَلِ، ومَا كانَ حُلمًا يَتحقَّق.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ٨ ديسمبر، ٢٤.

[noirbeduzz]

إنَّ النَّاسُ هَذِهِ الأيَّامِ مَجْلَبةٌ للإرْهَاقِ، والتَّعامُلِ مَعْهُم يَتطلَّبُ المَزيدَ منَ الجُهْدُ العَقْلِي والإسْتِقرَارَ النَّفسي، وأنَّى للإسْتِقرَارِ أن يَجيءَ في زَمَنٍ يَلِدُ الوَليدَ فيهِ وهوَ على حَافةِ الجُنونِ قَبلَ أنْ يَبْلُغَ الرُّشْدِ ويَلتَمِسَ الوَاقِعَ بِرُوحِهِ ويَديهِ.

في زَمَنِ العَولَمَةِ والتغييرِ الأبَدَيِّ، حَيثُ يُجرَّدُ فيهِ الإنسَانِ مِنْ آدَميَّتهِ تجْريدًا تامًا، يُرْغَمُ المَرءُ أن يُضحِّيَ بآدَميَّتِهِ قِربَانًا حتَّى يُؤهَّلَ للرَّكضِ في مِضمَارِ التقدُّمِ والحَدَاثَةِ، حَيثُ يظلُّ يَركُضُ دونَ توقُّفٍ ويَنتَهِزَ ويُواكِبَ قدْرَ الإمْكَانِ مُسْتَنزِفًا جُلَّ طَاقاتِهِ النَّفسيَّةِ، المَاديَّةِ، والرُّوحيَّة، حتَّى يَتمَّ الإقْرَارُ بِهِ ك "آدَميُّ" بَينَ الآخَرينَ، ويُمنَحُ لهُ شَرعيَّةِ المِقْعَدِ بَينَ المُجتمَعِ.

وعَلَى الجَانِبَ الآخَر، فإنَّ المَرءَ مُخوَّلٌ على بَذْلٍ مَجْهودٍ مُضَاعَفْ لإرْضَاءِ مَنْ حَولَهَم، ولِتَلبيَةِ سَقْفَ تَوقُعَاتِهمِ العَاليَة والغَيرُ مَنْطِقيْ في أحيَانٍ كَثيرَة، وأنْ يُحَاذِيَهُم في ذاتِ الرُّتبةِ وفي مَآرِبَ الحَيَاةِ، وفي الذَّائقةِ والرُّؤيَةِ، والقَوْلِ والفِكْرِ، يَعني نُسَخًا مُكرَّرة منَ الأنَا الفَريدُ منْ نَوعِه. وأنْ يُسَايرهُم في كلِّ شُعورٍ، حتَّى لا يُحكَمَ عليهِ بالهَرطَق��ِ الإجتمَاعيَّةِ ويُحَالُ للنَبذِ والتَّهميشِ.

الحَيَاة بَالغَةُ التَّعقيدِ، أو أنَّها مُعقَّدةُ منذُ أوَّلُ يَومٍ لَها ولَكنَّ عَاطِفَةِ النَّاسِ تجَاهَ الأمْسِ أضَافَتْ صُورةٌ جَماليَّةً إليهَا، يُعلَّقُ المَرءُ فيها مَابينَ الإنْضِبَاطَ الصَّارمَ لِعبَادةِ العَوْلَمَةِ والرَّأسمَاليةِ، وبَينَ تَلبيَةِ توقُّعاتِ الآخَرينَ، وتَأديَةِ دَورُ جَليسَةِ الأطفَالِ تجَاهَ عَاطِفَتِهم، والرَّكضِ المُستدَامِ لمُحَاذاةِ خُطُواتِهم تحت بَندِ الوَفاءَ والعِلاقةَ النَّقيَّة.

إنَّ هَذَا الشَّرْكِ الَّذي وَقَعَنَا فيهِ لمُجرَّدِ أن يَحظَى المَرءُ بحقِّ الإعترَافَ بهِ كإنسَانٍ مُتمَكِّن، مُتحضِّرٌّ، ويُضْرَبُ بهِ المَثَلَ في الوَفَاءَ والإخْلاصِ والسَّعِيَ بِشَغفٍ دونَ الاسْتِسلامِ يَدْفَعُ المَرءِ نحو الجُنونِ، وتَظْهَرُ عليهِ بَوادِرَ التَّعاسَةِ والعُزوفِ عنِ النَّاسِ. فَقدْ أُرِغِمَ على الإقْرَارِ والتَّوقيعِ على أنْ يُضَحِّيَ بِرُوحِهِ وذَاتِه ولَمْ يُخيَّر بإرَادَةِ نَفسِه، لأنَّ مُقاومَةِ إحدَى الجَانبينِ يَترَتَّبَ ورَاءَهُ عواقبٌ لا تَعرفَ الرَّأفةِ.

ولِكَيْ يَتفَادَى المَرءُ بَرَاثِنَ الجُنونِ، فإنَّ التَّخييرَ الوَحيدَ الَّذي يَحقَّ لَهُ هو أنْ يُخيَّرَ مَابينَ السَّعيَ ورَاءَ مُتطلَّبَاتِ الحيَاةِ الصَّارِمَةِ، أو تَلبيَةِ مَآرِبَ النَّاسِ، فَفِي العُزوفِ عن الأوَّل يُلْقَى المَرءِ غَيَاهِبَ الفَقْرِ والحِرمَانِ والرَّجعيَّةِ، إلى حَيثُ لا يَفقدَ مِقعدَهُ الشَّرعيُّ في المُجتمَعِ وحَسْب، بَلْ يُعرَّض للإذلالِ والمَهانَةِ علنًا. أمَّا في العُزوفِ عنِ الأخْرَى فإنَّهُ يُحيلُ المَرءُ إلى الوِحدَةِ والإنتِقَادِ والتُّهَمِ، ويَتحاشَاهُ النَّاسُ كمَا يَتحَاشوا القُبورَ والنُّعوشَ، ذلكَ التَّحاشي ظَاهرهُ تهكُّمٍ واشمِئزازٍ، وبَاطِنَهُ خوفٌ وذُعْر.

وأمَّا الوِحدَةِ أو الجانبَ الآخر في هَذهِ الحالةِ والأيام - وهيَ وُجهتي لا أدْعو أحدًا للإقرارَ بهِ، ولا هيَ بَديهيَّةٌ ولا قَاعدَةٌ - فِهيَ خيرُ مَلجأ يَعتَصِمَ المَرءُ فيهِ إنْ رَغبَ في إدرَاكَ نفسِهِ منَ الجُنونِ، وخَيرَ تطهيرٍ يُطهرُ المَرءَ ذَاتَهُ وروحِهِ منْ دَنَسِ الزَّمانِ.

إنَّ عُزوفَ الكَثيرَ عنِ النَّاسِ، وانْحسَار ثَقافةِ العِلاقاتِ لَهيَ ردِّةُ فِعْلٍ على الوبَاءَ الوجوديَّ الَّذي أصَابَ الزمَّانِ، وردَّةُ فِعلٍ دِفاعيَّة للتحاشي عن الجُنونِ الَّذي يُحمْلِقُ بنا ويحُومُ حولنَا كل يومٍ. وهو ليسَ بمُوضَةٍ حديثَة، أو إعتنَاقِ السَّوداويَّة، أو أعرَاضِ اضطْرَابٍ مُبتذَلٌ إسمَه كما تُروِّجَهُ دجَّالي تطويرِ الذَّاتِ.

ولو سَألتَني مِمَّا أخشَى هَذهِ الأيَّام، فإنَّني لنْ أجيبَ بالمَوتِ ولا الأشْبَاحِ ولا الظَّلامِ، ولكنَّ النَّاس، وأحيانًا الحَيَاةُ بحدِّ ذاتها.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ٧ ديسمبَر ٢٤

[noirbeduzz]

"I heard a bird sing in the dark of December."

— Oliver Herford

[noirbeduzz]

في الثَامِنَ والعِشْرينَ من تِشْرينَ الثَّاني تُطْوَى الصفحةَ الأخيرَة منَ الخَرَيفِ والحُزنِ المَديد، لَقدَ كَانَ خَريفًا قَاسيًا سَقطَتْ فيها المَشَاعِرَ مَع الوَريقاتِ جَنبًا إلى جَنب، لَقدْ كَانَ مَوسِمَ التَّطهيرَ الوُجدَانيُّ ولَيسَ على الطَّبيعةِ وحسْب، مَوسِمُ التَّهيّ��ءِ للبَردِ القَارِسِ، فالشِّتَاءَ يَتطلَّبُ ذَاتًا صَارمًا مُنْضَبطُ العَاطِفَةِ. والَّذي تمكَّن منَ عاطٍفَتِه فإنَّهُ يُولَدُ من جَديدِ معْ أوَّلُ يَومٍ منَ قَضمَةِ البَردِ، ومنْ كانَ على قَيدِ النِّضَالَ فإنَّ نِضَالهِ يَطُول، ومنْ سَقَطَ في بَراثِنِ الأسَى فإنَّ أسَاهُ رَفيقَهُ حتَّى انْجِلاءِ المَوسِم. وتِلْكَ قَاعدَةٌ مَوضِعَ شَكٍّ لا بَديهيَّة.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ٢٨ نُوفمبَر ٢٤

[noirbeduzz]

أدْرَكْتُ أخيرًا جُذُورُ تلكَ الرُّؤى الَّتي تُراوِدُني في اليَقظَةِ مُنتَشيًا بالمُوسِيقَى، وهيَ رُؤىً مُشوَّشةٌ، غائبةُ التَّفاصيل وغَيْر دَقيقةٍ عَنْ ذِكْرَى في صِبَاي، تُسْرِدُ لِيَ عنْ مكانٍ أو سِمَةً أو حالةٌ وُجدَانيَّة إمَّا قَصَدْتَهَا أو ألتَمَستُها في صِبَاي، قَاتِمٌ مِثْلَ قَلعةٍ شَاهِقة وخَاوية وبَاردٌ مِثْلَ لَيالي كَانونِ الأوَّل، ولكنَّهُ سَاحِرَ الجمَال كمَا لو أنَّهُ أثَرٌ ثَمينٌ لَمْ يَكتَشِفهُ الإنْسُ بَعد. يَكادُ أن يكونَ يُنبُوعَ سَعادَتي.

تِلكَ الجُذورُ في مُتنَاولِ يَدي طَوالَ الوَقتْ ولَمْ تَنالَ انتبَاهي، ظَللتُ أفتِّشَ عنَها سِنينًا في كَبائرَ الأمُورِ مُتجاوزًا أبْسَطُها، حتَّى أتيَقَّن بإنَّها لَيسَت هَذيَانٌ. إنَّه أبَي، هو مَنْ وَضَعَ أساسَ تِلكَ الذِّكْرَى عنْ دُونِ قَصْدٍ. تِلْكَ التَّجرُبّة الفَريدَةِ الَّتي تُسردها الذِّكرى لاحقًا سَتُصْبِحَ المُسَاهمَة الأولَى في صِيَاغةِ كلَّ ما يَتعلَّقَ بِذَاتي، لِذَلَك هِيَ إليَّ لا تُقدَّرُ بِثَمنٍ.

والآن انْحَسَرَ الضَّبابُ، وزَالَتْ الغشَاوةُ، وأصْبَحَ يَ��يرًا عَليَّ اسِتْدعَاءَ تِلكَ الرُّؤى نَاصِعةٌ التَّألقِ دونَ عَيبٍ، وأحْيَا بِدَاخٍلها، كَمَا لو أنَّها حالةُ صعودٍ. أكَادُ أن أنْسَى كُلِّ الآمِ الأمْسِ، وأكَادُ أن أتجلَّى بَهجَةً. وإنَّني مُمتنٌ لِوَالدي، على ذَوقِه في صِيَاغةِ الذِّكرَياتِ.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ٢٤ نُوفمبَر، ٢٤

[noirbeduzz]

a hall of hushed prayers and whispered hymns

ig: pixel.planetarium

[noirbeduzz]

الأشبَاحُ تعمُّ حَيَاتي، أرَاهُم وأسْتَمِع إليهم، وألْتَمِسَهم، تَكْمُنُ المُشكلة أنني ظَننتُ لعُقودٍ أنَّهُم كَيَانَاتٌ حيَّة، تَشْعُرْ وتَتفاعَل، كَمَا أمَارسُ لهم بالمُقابِل، إلى أنْ أدْرَكتُ مُتأخرًا أنَّ ثمِّة حَاجزٌ غيرُ مَرئي، يَمنَعُني من مُواكَبَةِ الحَيَاةِ مَعْهُم.

تسَائلتُ لِفترَة عنْ اسْتِعصاءِ مُواكَبَتِنا لذَاتِ الحيِّزْ، كلَّ مرةٍ أتودَّدُ نحوَ مِسَاحاتِهم، أجِدُ ذاتِي وقدْ تخلَّفتُ عنْهُم عشَراتُ الخُطُوات، ثمَّ أعدْت�� صِيَاغةَ ذَاتِي، علَّ أنَّ ثمَّةَ خَطأً فيني يُعيقُني من التقدُّمِ مَعُهم، تقلَّب التسَاؤلِ مجدَّدًا، على جَرفِ الجُنون عقْبَ تعذُّري لإيجَادِ الإجابَةِ، أعدْتُ صِياغةَ حَيَاتي، أجْرَيتُ الكَثيرَ من الإصْلاحَاتِ، حتَّى أزيلَ هذا الحَاجِزَ الغَيرُ مَرْئي، مع ذَلك اسْتَعصَى الأمرُ كَثيرًا الوُقوفَ إلى جَانِبهم على الأقَلِّ.

شَعْرْتُ وكأنَّ القَدَر عَنيدٌ في إرادَتِه مهمَ نَاضَلتُ، ثمَّ أدْرَكتُ رويدًا سبَبَ تخلُّفي عنهم مِئاتُ الخُطُواتِ في كلِّ مَرِّةٍ أحاذِيَ خُطواتُهم، وتتعثَّرُ مشاعري عنِ الوُصولِ إلى دَاخِلهم، وضَآلةُ صَوتِي عنْ الترَنُّمِ إلى مَسَامِعِهم، ويَديَّ عنِ تَلامُسِهم. الآن أدْرَكتَ تقلُّبِ المَفاهِيمِ بينَ الحَيِّزينِ، مثَلَ مَفهومِ البَسمةِ والبُكاءِ، والبَهجةِ والغَضَب. لَقدْ كُنتُ أعامِلَهُم مُعامَلةِ الأحياءِ، ويُساءُ فِهمي، لأنَّ مَفاهِيمَنا كانتْ مُختلِفةٌ جذْرِيًّا.

وفي أحْلَك سَاعاتِ اليَأسِ، أدْرَكتُ مرةً أخرى حقيقةً ظَلَلتُ أتهرَّبَ مِنها، وفورَ الإقرَارَ بها تحتَ تأثيرَ اليَأسِ، شعرْتُ بقوُى تنْزَعُ رُوحي بِلا هَوادَة. لَقدْ كانوا أشْبَاحًا، وقدْ أعدْتُ صِياغةَ ذاتِيَ وحياتي من جديد لأجلِ أشبَاحٍ، لَقدْ ألمَحوا منذُ البِدَايةِ أنَّ عالَميْنَا لا يَتقاطَعانِ، لِهذا كلَّ مَسَاعيَ للتودُّدِ بِهم كانَت تُواصِلُ تعثُّرها، مع ذَلكَ كُنتُ عنيدًا، حدِّ البَلاهَةِ، وإهمَالُ الذَّاتِ.

رُغمَ ذلك، لا أعتَقِدُ أنَّهُ مُحرَّمٌ أن يَحيَا الثُّنائيُّ معًا، حتَّى في ظلِّ مَحدوديَّةِ الإلتِمَاسِ، وعلى الرَّغمِ من الفَارِقِ الشَّاسِع بينَ الحَيِّزينِ. كانَ الإقْرَارُ بأنَّهم لا يَنتمُون لحيِّزي واجبٌ على الأقل.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ٣ نُوفمبَر، ٢٤

[noirbeduzz]

“Lonely November. A month to spend in mournful dreams.”

— Helaena C Moon

[noirbeduzz]

مع أوُّل قُبْلَةٍ منَ فَصْلِ الخَريفِ في آخر ليلةٍ منْ تِشْرينَ الأوَّل الذي مَضَى في جُزءٍ منَ الثَّانية مِثْلَ الفَاصِلَ الضَّئيلَ بينَ زَمَنينِ أثنَاء السَّفر عبْرَ الزَّمن.

فإنَّ بَلدةِ سَاقِ الغُرَابَ مُخيفَةٌ أكثَرَ منَ الهَالويين الهَزلَيّ، حَيثُ الهَالويينَ يَحدُثُ فيها كلَّ يومٍ، والَّذي يُضاعِفُ الخَوفَ أكثَرْ أنَّ سُكَّانها ليسُوا مُتنكِّرينَ، بَلْ يَظهرونَ بحُلَّةٍ حقيقيَّة. فَفِي سَاق الغُرَاب لَدينا مُهرِّجين، وسَاحِرات، وأشبَاح، وعَفاريتْ، ومصَّاصي دِمَاء، وذِئابٌ بحُلَّةِ أكبَاشٍ، وقَتلة مُتسلسلين إلخ.

بَلْ وحتِّى أكثَرَ رُعبًا منَ التلِّ الصَّامِتْ الَّذي يُقيِّد النَّاس في حَيِّزٍ خارجَ الإطارَ الزَمنيِّ لمُجابهةِ عوَاقِبَ المَاضي، فَبَلدَتنُا هيَ التِّل الصَّامتَ بِعينِها، حيثُ يُحبَسُ المَرءُ فيها أبَدِيًّا ليُوَاجِهَ خطاياهُ بالأمْسِ والغَدِ دونَ خَلاصٍ حَتْمي، إلى أن يُذْبَلُ روحَه، ويُفقدَ إيمَانَهُ بكلِّ شَيءٍ ويُصْبحُ عُرْضَةً لوَباءِ الغِربَان.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ٢٩ أكتوبَر، ٢٤

[noirbeduzz]

إذَا كَانَ عَزَاءكَ للحَاضِرِ في الهُروبِ للوَرَاءِ، فهوَ بالتَّأكيدِ يَعني أنَّ كلَّ شَيء حَولكَ حَاضرٌ لمْ يَشْفَعك في مَآسيك، وفَشِلَ في نَصبِهِ لمكَانةِ الأمسِ، يَعني أنَّ جمَالياتِ الحَاضِرِ قدْ أبْهَرتك بَصريًا وحسْب. فَفِي نِهاية الأمْرِ مُرَادِفَ التودُّدِ للمَاضي هو مُناهضَةُ الحَاضر بكُلِّ أشكالهِ.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ٢٧ أكتوبَر، ٢٤

[noirbeduzz]

أدْرَكتْ أنَّ قدَرَ المَرءَ أن يَعودَ إلى إنتمَاءهِ الأول.

أدْرَكتُ أنَّ الإنسانَ لَيَطوفُ حولَ الأرْضَ طوَالَ تِرْحَالِه اسْتِجابةً لإرادَةِ القَدَرِ، وحينَ تِرحَالهِ يُبْصِر ويُجرِّبَ ويَتغنَّى، وبرويَّةٍ يَنسَى الأمْسِ، ويَنسَى معهُ كُلَّ تجْرُبَةٍ صَاغتْ مَشَاعِرَ جديدة،

مهمَ طَالَ تِرْحَالهِ فإنَّهُ يَجدُ ذاتَهُ في يومٍ ما وقدْ عادَ إلى نُقطةِ بِدَايَته، إلى أوَّلَ ملاذٍ آمَن أسْتأنَسَهُ، إلى أوَّلُ يُنبوعِ السَّعادَةِ، إلى أوَّل إنسَانٍ عَرِفَ مَعانِي الإنْسَانيَّةِ منْ بَعدِه. إلى أوَّل مكانٍ هُيِّئتْ فيهِ بَصيرَتَهُ وشُعورِه وتَفكيرهِ.

في تِرْحَالنَا لبَهجةِ العلاقاتِ، نَجدُ ذَواتنا وقدْ عُدنَا إلى العِلاقَةِ الأولَى أو أَضْعَفُ الإيمَانِ أن نَتوقُ إليها، إلى حَيثُ أبْصَرنَا سِماتُ الحياةِ، وفي تِرْحَالنَا للأمَاكنَ، نَعودُ رَاكِعينَ إلى أوَّلُ مكانٍ ألتَمسْنَا فيهِ السَّكينةِ، نَتضَرَّع على جُدْرَانهِ أن يُعيدَ لنا شُعورُ الأمْسِ، وفي تِرحَالنَا للمَهارِبِ، نَعودُ إلى أوَّلُ ملاذٍ اعْتَصمْنَا بهِ في مَخاوفِنَا ولو منْ خِلالِ هَذَياناتٍ يُصيغُها العقلِ.

كُلَّ علاقةٍ أنبَتَتْ في دَاخِلنا زُهورًا، لا تُعادِلَ أوَّل علاقةٍ زَرعتْ زَهرةً ظلَّتْ تُزهرُ حتَّى يُومنَا، وكلَّ بيتٍ نَسكُن فيهِ لا يُعادٍلُ أوَّل بَيتٍ أبْصَرنَا فيهِ حيثُ ألتَمسنَا أوَّلُ تعاريفَ الحُبِّ والدِّفء، وكلَّ مُمَارسَةٍ تُنجِّينَا منْ قَسْوةِ الحَياةِ، لا تُعادِلَ تلكَ المُمَارساتِ الأولى الَّتي نَجَّتنا من أوَّل عقبةٍ وَقعنَا عليها. وكلَّ مَصدرَ شُعورٍ فَريد أشْرَقَ فينا البَهجةِ مهمَ تعدَّدَ حاضِرًا، لنْ يُضَاهيَ أوَّل مَصدرٍ أَضاءَ الفَراغَ في دَاخِلنا وظَلَّ ضِياءَهُ مُشرقٌ حتى اليوم.

حِرِّيُّ بنا أنْ نُثمِّنَ التَّجاربَ الأولَى، المَاضي، مَهمَ أغوَتْنَا التجَارب الجديدةِ المُحيطةِ بنا اليوم، لأنَّ الأمسَ يُطاردَ المَرءِ حتِّى يُدْرَكهُ، ويُدْرَكهُ في أحلَكِ السَّاعاتِ وفي مَواضِعَ الأسَى والهَوان، حيَثُ لمْ يَشْفَعنا بَريقُ الجَديدِ.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ٢٨ أكتُوبَر، ٢٤

[noirbeduzz]

"I wish you joy" Jane Austen, from a letter to her brother Frank (26 July 1809)

[noirbeduzz]

Eva Besnyö

Starnberger Strasse, Berlin, 1931

[noirbeduzz]

أنا آدم، الذي أكل التفاحة؛ آدم الذي صار بغتة بصيرًا على نفسه مشدوهًا وخجلًا من نفسه أنا آدم العارف بأمور الخير والشر، مقترفًا الخطيئة تلو الأخرى؛ آدم المتشكك من نفسه دومًا والذي صار يواري وجهه. ما أنا إلا آدم المتخبط في شَرَك الزمان والمكان، ومن الحقيق لا نجدة: الفردوس ضائع؛ من ريبتي وقلقي المفرطين. أنا آدم، الذي سمع من ربه: الوداع. — أنا آدم، سباردي جوكو دامونو.

[noirbeduzz]

على حينِ غِرِّة، تَلاشَى ضَوءُ الشَّمسِ بخجَلٍ بَعدَ أنْ بَاغتَتْ الغيومَ الشَّمْسَ خِلسَةً، حينَهَا تحوَّلَتْ زُرْقَةِ السَّمَاءَ البرَّاقةِ إلى عتمَةٍ رَماديَّةٍ، وَلِهولةٍ، أنهمَرَ الغَدَق بغزَارةٍ حتِّى أبْتَّلتْ الأرضَ.

أُبْصِرُ عتمَةَ اللَّيلِ تَزدَادُ حُلْكَةً يومًا تِلْوَ يومٍ، وفي دَاخلي صَوتٌ يُردِّدُ بإنَّهُ ليْسَ هُوَ اللَّيلُ الَّذي يُصَاحِبَهُ السُّكونٌ والتَّجلِّي، ولَكنَّهُ لَيلٌ يُؤرِّقُ ومُربِكٌ، نَطَقَ صوتٌ آخَر دَاخِلي بأنَّ هذَا ليسَ اللَّيلُ الَّذي أعتصِمُ بهِ هربًا. تلكَ الحُلكةِ تُقيِّدُ منْ الشُّعورِ، وتَقطَعُ حبلَ الأفكَارِ، وتُرهِقَ البَدَنِ بالكَسَلِ، وتُحجبُ الأذُنَ عنْ المَسمُوعِ، وتُيقِظُ أشبَاحًا منَ المَاضي والحَاضِرِ، ورُبمَا منَ المُستَقبَل.

إنتَظرتُ الغَدِ، إلى حتميَّةِ ضَوءِ الشَّمسِ حتَّى اسْتَقرِءَ ماهيَة اللُّوثَة الوجوديَّةِ الَّتي أصَابَتْ اللَّيلَ، وتلكَ المرَّةِ الأولى الَّتي تلهفتُ نحوَ ضَوءَ الشَّمسِ، فإنَّني أجدُ سَكينَتي بَيْنَ حُلكةِ اللَّيلِ وأعْرِفَهُا حقَّ المَعرفةِ، ولكن تُشْعِرُني عِظَامِيَ أنَّ تِلكَ الحُلكةِ لَيسَتْ بِلَيلٍ الَّذي يَنعمَ فيهِ المَرءُ بِشيء منَ السَّكينةِ.

في يَقظَتي أبْصَرتُ السَّماءَ لازَلتْ مُعتِمَة، معْ شُعورٍ بالجِبْلِيدُ يَقبَعُ فوقَ صَدْرِي، باردٌ وثَقيل، تَسائلتُ مَا إنْ كُنتُ قدْ فَوَّتُّ ضَوءَ الشَّمسِ أمْ أنَّني معلَّقٌ في حَلقةٍ لامُتنَاهيَة؟ نَظرتُ إلى سَاعتي وكانَتْ مُتوقِّفة، وأعتبَرتُ ببساطةِ أنْ عُمْرِ البطَّارية قدْ نَفِذ. أردَتْ إذَابةِ الجِبْلِيدُ العَظيمَ بالسُّبَاتِ الطَّويلِ.

وفي يَقظَتي الثَّانية كَانتْ ال��ُّؤيةُ أصْبَحتْ ضبَابيِّةٌ وظَنَنتُ أنَّ العِلَّة في بَصَري، ولمْ يُزحْ الجِبْلِيدُ مِنِّي شِبْرَ واحد. هذهِ المرِّة ثمِّة عُقدَةٍ عقدَتْ لِسَاني، أمَّا ذَاكرتي فَقدْ يَبِسَتْ مثلَ وريقَةِ الشَّجر هذهِ الأيَّام، ولٍسَاني لمْ يَعُد يُميِّزُ بينَ الحُلوِ والمُرِّ، كمْ لَبثْتُ يَا تَرى؟

في يَقظَتي الثَّالثَة أطَلتُ النَّظرَ في هيئةِ السَّماءِ المُريبَةِ الَّتي أظْلَمَتْ لِثلاثِ أيامٍ بِليَاليهَا في مُحاولةِ التعرُّفِ عليها، ثمَّ لِوهَلةٍ أدْرَكتُ أنَّ الحُلكةِ لمْ تَكُن اللَّياليَ البَاردَة. يُخيِّلُني أنَّني أرَى عبَاءةُ الأسَى، عظيمةٌ شديدَةُ الغَيْهَبِ، تَلتَفُّ مِثَل الشَّرنقةِ حولَ الأرَض في صُورةٍ مُجازيَةٌ لِليِّلِ. تَمتصُّ كلَّ أشكالِ الحيَاةِ. أهيَ رُؤى؟ أم، هَذيانٌ؟ ثمَّ أدْرَكتُ أمرًا آخرًا، وهو أنَّني الوحيدُ الَّذي يُبصِرُ هذا الكَائنَ العظيمَ العائمَ فوقَ الحيِّز. إذًا فَقدتُ عقلي؟ لمْ أعتَدْ رُؤية الحُزنِ بتلكَ المَهابَةِ.

ترنَّمتُ إليها: "هلْ مَجيئُكِ غايتُها التَّطهيرِ؟" لمْ تُجيبُني، وظلَّتْ تُحمْلِقُ إليَّ بٍعينيها المُتوهجَتين مثلَ النُّجومِ. ترنَّمتُ مرةً أخرى: "هَلْ مَجيئُك عقابٌ لي؟" أجَابتْ: "الأمرُ متروكٌ بينَ يديكْ." لَمْ تَكُن العتمة الَّتي أبْصَرتها في المرةِ الأولى هيَ توغُّل اللَّيلِ الخجولِ، والغَدَقِ كان مَجازًا الدُّموع.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ١٩ أكتوبَر، ٢٤