noirbeduzz

[noirbeduzz]

نَشَأ فَارِسًا وقَاتِلاً، توَّجَهِ، وهيَّئهُ أبَاهُ على هَذِهِ الفِطْرَةِ ولَمْ يَكُن يَعيَ مَا يَفعَل، ولَمْ يَكْن عَقْلَهُ مِلكٌ لهُ فَقدْ كَانْ يُمْلِى عليهِ عَقيدَتهُ وقدْ كَانَ أكثَرَ مِمَّا قِيلَ عنهُ. الكَثيرَ منَ الأكَاذِيبِ تمَّ حَشْوها كَافيًا لإحتِقَارِ ذاتِه، فُروسِّيتهِ، ومَلكَه عِندَمَا يَسْتَيقِظ.

لقدْ كَانَ التَّتويجَ بُهتانًا، فَلمْ يَعرْفَ الحُبَّ قط ولُغَتهُ هيَ الكُرهَ، وَوُعودَهُ هيَ القَتْل، وبِها يُغذِّيَ مَجدْ أبَاهُ المَلِك. مع هَذَا فَقَدْ كانَ يَسعَى مُتفاخِرًا بالإفْكَ الَّذي تُوِّجَ بهِ ويَسْعَى بَاحِثًا عمَّا يَنقُصَهُ، وهوَ الحُبُّ، كيْ يَجدَ مُبرِّرًا لِغمْدِ سَيفَهُ، والتحرُّرِ منَ الأكَاذيبِ.

ولكِن، أنِّى لأدَاةِ العُنْفِ أنْ يَشْعُرَ بالحُبِّ؟ وأنَّى لمَن اعتَادَ الرَّقصَ على النُّصُلِ أن يَرْقُصَ على الحُبِّ؟

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ٩ فِبْرَاير ٢٥

[noirbeduzz]

"أنَا أفكِّرْ إذًا أنَا مَوجُود."

بالشكِّ، يُؤكِّدَ المَرءُ هَويَّتَهُ.

لطَالمَا تقلَّبَ هَذَا الكُوجيتُو الدِّيكَارتي كَثيرًا في رَأسي لِفترةٍ منَ الزَّمَنِ، وقَدْ كَانَ مُلهَمَ الكَثيرِ منَ أعمَالِ الفنِّ السَّابِعِ، وحتِّى ألعَابَ الفِيديو، والأنميشَنْ، وخَاصَةً الَّتي تَدُور رِحاهَا حولَ نِهايةُ العَالِمِ ويَليهَا انْهِيَارِ الحضَارَةِ، والتَّيهُ الوُجودِيُّ الَّتي يَعْقِبَها، ومَا تَركْتُ عمَلاً فنَّيًا مَبنيٌَّ على الكُوجيتُو إلَّا ومَنَحتَهُ حقَّهُ في المُشَاهدَةِ سَعيًا في التَّيسُّرِ لفِهمِ مَا يَدورُ في جُعبَةِ دِيكارت. وقَدْ مَجَّدتُ بعضًا مِثَل سِلسلَةِ المَاتريكسْ، وارْهَبَتني بعضٌ مِثَل لعبةِ الفِيديو "Returnal" المَزيجُ المُعقَّدِ بينَ مبدَأ الكُوجيتو، وفلسفةِ "العَودُ الأبَديُّ" لِنيتشَه.

بَعيدًا عنِ الفنِّ السَّابِع، قَدْ يُطبَّقُ مبدَأ الكُوجيتُو على إنسَانِ اليومِ المُرَهَقُ منَ التمدُّنِ، فكُلُّ إنسَانٍ على قيدِ الحيَاةِ طَالمَا يَعي ذَلك، بالمُقابِلْ ليسَ كلُّ إنسَانٍ "مَوجودٌ" بالضَّرورةِ.

الشِّقُّ الأوَّل منَ المَبدَأ يُخبِرُنَا أنَّ التَّفكيرَ وَليدُ الشكِّ، فَمَن يَجرؤُ يَشكُّ، ثمَّ يجْرؤ تارةً أخرَى لِيتَسائَل، وهيَ الخُطُوةُ الأولَى لتَأكيدِ هويَّةِ المَرءِ في عَالمٍ يُجرَّدُ فيهِ الإنسَانَ منَ أصَالَتِه وهويَّتِهِ، فإنَّ افتتَاحيَّةِ التَّفكيرِ تبدَأ غالبًا ب: (كَيف؟ لِمَاذَا؟ هَلْ؟ إلخ) فَتلكَ المُفْرَداتِ هِيَ مَفاتيحُ التَّحرُّرِ منَ القُيودِ، وبُذورُ الشَّكِّ، والَّتي تَتَّسِمُ بالمُنَاهَضَةِ والرَّفضِ، الَّتي فَرَضَتهَا الارْهَاقَ الوُجودِيُّ، وعَجزِ الاسْتيعابِ، وتعذُّر توفيرِ الإجَاباتِ وضَبابيَّةِ جودَةِ العالمِ.

أمَّا الشَّقُّ الآخَر فَيُؤكِّدَ دِيكَارَتْ أنَّهُ لمُجرَّدَ السَّعيَ للإجَاباتِ، عبْرَ تَنشيطِ القَليلِ خَلايَا الدِّماغٍ والإقْرَارَ بإنَّ ثمَّة خطبٌ مَا عَجَزَ عن اسْتِقراءِهِ، فَقدْ نَالَ المَرءُ اسْتِقلاليَّتِهِ عنِ حَظيرَةِ المَصفوفَةِ، وعن نُظُمِ الطَوبَاويَّةِ المُزيَّفةِ، وحقَّقَ وُجودَهُ بِجُرأتِهِ على الشكِّ والتَّفكُّرِ. فطَالمَا أن المَرءُ على قيدِ التَّفكيرِ فَهوَ مُنَاهِضٌ لا يَثِقُ بالمَكانِ أو الشَّيءِ حَوْلَهُ حتِّى يَسْ��َوعِبَهُ.

لِمُجرَّد أنْ يَستوعِبَ المَرءُ حيِّزَهُ، ويُشْبِع شُكوكَهُ بالتحرُّرِ منَ القَيدِ والخَوفِ، فإنَّهُ يُبَادِرَ بالتحرُّكِ بصُورةٍ عكسيَّة، ويَرتَفعُ درجةَ الحَذَرِ لدَيهِ، ويُنمِّي النَّاقِصَ، ويُعزِّزَ حَصَانَتهُ الذَّاتية. إنَّ العَاجِزَ عنِ التَّفكيرِ غَيرُ مَوجودٍ، لأنَّهُ نُسخةٌ مُكرَّرَةِ، وخَائفٌ منَ الحَقيقَةِ الفَضْفَاضَة، وَقدْ أُمْلِيَ عليهِ كَيفَ يَعيشُ ويُدْرك، مِثَل البَشرِيُّ المُصَيَّغ دَاخِلَ أُنْبُوبٍ، المُبَرمَجٌ مِنْ قِبَل رُوبُوتَاتٍ تَابِعة لخَالِقي العَالمَ الطَّوبَاويّ، كَمَا المَوصُوفِ في أعمَالِ "ألدُوسْ هُكْسِلي" الأدَبيَّةِ.

إنَّ أفضَلَ مُرادِفٍ لمبدَأ الكُوجيتو لدَى الفنِّ السَّابِعِ هو "سلسلةُ المَاتريكْسْ"، فإنَّ العمَلَ هو صِيغةٌ مَرئيَّة منَ النصِّ المَكتوبِ، وأنَّ المَصفوفَةِ الَّتي شكَّ "نيو" بِشَأنِ أصَالتِه وسَعيهِ للتحرُّرِ منها لَيسَ وهمًا منَ مِخيَالِ المُخْرِج، بَلْ تَعبيرٌ مَجازٍ للعَالمِ في يَومنَا الحَاليِّ، عَالمٌ طَوبَاويٌّ آلِهَتَهُ العَولمَةِ والرَّأسمَالِ وقَسَاوسِتَهُ رِجَالُ السَّاسَةِ والأعمَالِ.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ١ فِبراير ٢٥

[noirbeduzz]

يَظلُّ الإنْسَان يَتفنَّن بالحَديثِ عنِ المَوتِ وفي اسْتِقرَاءُه ورُبما مجَّدَهُ وحتِّى بَحثَ عنْ جَوهَرهِ منْ خِلالِ الفنِّ والفَلسفَةِ والدِّينِ، حتَّى يَحومَ المَوْتُ حَولَهُ فَيَصْمُتْ ويَطُولُ صَمته، مِثْلَ نسمةٍ تُخطِفَ ضوءَ الشَّمعِ بغتةً ويَصيرُ الحُضورُ مريبًا، والمكَان يَزدادُ حلكةً. قدْ يَدَّعيْ الإنسَان عَدمَ الخَوفِ مِنهُ، أو حتَّى يَتوقَ إليهِ لأنَّهُ الخَلاصُ الحَتْمِيْ منَ العَبثِ، حتَّى يَشمُّ رَائح��تَهُ فَتسْتَعرُّ غَريزَةُ البَقاءِ لَديهِ على حينِ غِرَّة.

كانَ المَوتُ مَنَاصَ الكَثير، ومُلهمَ الكَثير، مِثلما الكَثير يَتحاشَاهُ، مع ذَلك فإنَّ اليَقينَ أنَّ الجميعَ يَهابَه إنْ حَضَر حتِّى على الرَّغمِ منْ أنَّنا نَسيرُ نحوهُ كلَّ ساعةٍ. ذَلكَ لأنَّهُ مَجهولٌ بِطَبيعَتهِ ولُغزٌ لَمْ يَمنح مُجرِّبيهِ أيِّة إجاباتٍ بشَأنِه، والمَجهولُ غلاَّب، مَصدَر ذُعرٍ للإنْسِ، حِينَه كَتجربةٍ رُوحانيَة، ومَا يَليهِ لاحِقًا في العَالمِ الآخر، وقِلِّةٌ من يَجرؤ على المَجهولِ.

تُردِّدُ وَالدَتي: إنَّ وَقعةُ المَوتِ ثَقيلٌ، حيثُ يَشتهي المَرءَ المَوت أو يَتطفَّلَ عليه، حتِّى يَستجيبَ، إمَّا لأجْلِه أو لأجْلِ أحدٌ من حولَهُ، فَيُضعَف ويَنكسر، وإنْ آمَنَ بِحتميَّته.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ١٤ يَنايرْ ٢٥

[noirbeduzz]

أبْصَرْت وشَعرتْ ثمَّ فَكَّرت فَأصْدَرتُ ردَّةَ فِعلٍ، فَنَدِمتُ لأنَّني تعجَّلتْ، ثمَّ أحيِّيتُ الشُّعورُ تارةً أخرى، وأعَدْتُ التَّفكيرَ، فَنَدِمتُ على نَدَمِي الأوَّل. ثمَّ تنَاسَيتْ ولمْ أنسَى، وأبْصَرتْ الجَانيَ بَعدَ ردَحٍ منَ الزَّمنِ وقدْ غَرِقَ في وَحِلِ جِنَايَتِه، ورُبمَا ماتَ عليهَا شَرَّ مِيتةٍ، ولَمْ تَكنُ لي يدٌ فيها، فَنَدِمتُ بأنَّني اسْتَهلَكتْ الكَثيرَ منَ الوَقتِ أسيرًا لدَى التَّفكيرِ والشًّعورِ.

ثمَّ عَاودْتُ التَّفكيرَ، ولَمْ أُقْلِع، لأنَّ ألمَ الجانِي قدْ فَاقَ ألَمِي، وتبدَّل الشَّفقةِ محلَّ التَّشفِّي، وسَألتُ ذاتي، هَلْ كانَ الجَاني هُو أم عَقلي؟ هَلْ كَانَ التَّفكيرَ في مَوضِعِهِ أمْ أنَّ الأمرَ لا يَستَحقَّ وحسْب؟

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ١١ يَناير ٢٥

[noirbeduzz]

Couple skating on Peblingesøen, Copenhagen. Photography by: P. Elfelt, 1917.

[noirbeduzz]

الأوَّلُ منْ كانونِ الثَّاني، تَرتَجِفُ يَدَاي مِنْ بَأسِ الشِّتَاء، وبَأسَهُ إليَّ أهونُ منْ بَأسِ صَيهَدِ الصَّيفِ، يُزمجِرَ الزَّمهريرَ بِنَسيمِهِ القارسَ والأقْرَبُ للحُرْقَةِ، حدَّ أنْ أصْبَحَ وجودُ الشَّمسِ مَحصورٌ كَمصدَرِ ضِيَاءٍ وحسْب، ظَاهِرَهُ بَاهِتٌ وخجول وكأنَّ عليهِ غشاءٌ ضَبابَيٌّ.

وحينَ يَنْحَسرُ تدريجيًا يَمتَدُّ النَّسيمَ البَاردِ رويدًا مِثْلَ اجتيَاحِ الفُرسَانِ بالتَّدرُّجِ مُمَشِّطينَ مِنطقةِ تِلوَ مِنْطَقة حتَّى يَحينَ الغَسَقْ، فَيُحجِمَ قَبْضَتَهُ القَارِسَةِ على الأرْضِ والسَّماءِ والزَّرعِ والمَخلوقِ وصِحَّتِهِ وعَاطِفَتِه، ويَشتدُّ بَأسَهُ كلِّ سَاعةٍ حتِّى تَعُم الحُلكةِ كامِلَ السَّماءِ، وكأنَّهُ يُغرِسُ مِخلَبَهُ في بَاطِنَ الأرْضَ، يبثُّ من خِلالها الزَّمْهَريرَ، يُجمِّدَ كلَّ أشكَالِ الحَيَاةِ.

ثمَّ تَحلَّ لُؤلؤةِ مَجرَّتِنَا القَمَرَ محلَّ الشَّمسِ، وَيطولُ بَقاءَهُ ويُلْقي بِضِياءَهُ الساحرَ على الأرَضَ ويَتناغَم بَريقِه الآسِر مع بَياضِ الأرْضِ ورَماديَّته الَّذي يَخلقَهُ الضَّباب، ليُصيِّغَ صُورةً دَراميَّةِ مُقتبسٌ منْ عالمٍ سِحْري خارَجَ حيِّزنا، يَتركَ المَخلوقَ في دَهشةٍ، مَسحورًا.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ١ يَناير، ٢٥. ❄️

[noirbeduzz]

it is winter everywhere inside you

Claude Monet, Jennifer Chang, Sara Lefsyk, Joseph Fasano, Kaveh Akbar, Mahmoud Darwish

[noirbeduzz]

ثمَّة انتِمَاءٌ رُوحيٌّ بينَ الإنسَانِ ولُغَتِهِ الأُم، ولوْ طَافَ الأرْضُ وتفنَّنَ لسَانَهُ باللُّغاتِ الثَّانويَّةِ. إنَّ اللُّغةَ الأُّمِّ المَعقودَةِ بالرُّوحِ ليسَتْ مجرَّدُ مُفْرَدات صمَّاء، باللُّغةِ يتحدَّثُ المَرءُ مشَاعِرَهُ، ذَاكِرَتَهُ، وذِكْريَاتِه، فالكَلمةُ أبْلَغُ بقُوَّةِ المَشَاعِرِ، والسَّردُ يُسْحَرُ بعُمقِ الذَّاكِرَةِ، باللُّغَةِ يتلامَسُ الشُّعور وتَسمُو الإدْرَاك. فَيَتجلِّى المَرءُ عندمَا يَتلقِّى غزلاً بِلُّغتِهِ الأمِّ كمَا تُجرحَ وَقَارَهُ بشَتيمةِ لُغَتِه.

الحَديثُ بِلغةٍ ثَانويِّة أشبَهَ بحِوارِ البَرمجيَّاتِ، مُفْرَداتٌ لا وزنَ لها، ولا شُعورًا مَقرونًا بها، ولا تُصَاغُ من أرْشيفَ الذَّاكِرةِ، ولا دِفْءَ في المُحاورِةِ بها، ولا تُؤثِّرُ هِجاءَها، لِذَلك يُفضِّلُ الكَثيرُ مِنَّا الشَّتائمَ والهِجاءَ بِلُغةٍ ثَانويَّة، لأنَّها جوفَاء لا تُوزنُ بِشُعورٍ حَقيقيٌّ. ولا أقْصِدُ هُنا التَّقليلَ مِنَ اللُّغاتِ الأخرَى، ولا الحثِّ عنِ التَّفادِ بتَعلُّمِها.

أنْ تَتحدَّث بلِسَانِكَ الأُم، يَعني أنْ تُقرَّ بِوجودَك، يَعني أن تُعبِّرَ عنْ شُعورِك، يَعني أن تُفْصِحَ عنْ مَاهيَتِك. لُغَتَك هيَ لُبَابة رُوحِك، ويَنْبُوعَ مَشَاعِرك، قَبْلَ أن تكونَ هويَّتك.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ٣١ ديسمبَر، ٢٤

[noirbeduzz]

أُغْلِقُ عَيْنَيَّ وأَجِدُ ذَاتِي عَلَى مشَارِفَ نِهايةَ العامِ، ثمَّ أعودُ وأُغْمِضَ عَينيَّ مُجدَّدًا لأنَّ الزَّمَنَ مُعلَّقٌ في حَيِّزي، فإذَا بي أسْتَيقِظُ على مشَارِفَ نِهايةِ العِشْرينِ.

في لَحظةِ سُبَاتي الزَّمَني عَصَفَ الكَثيرَ مِنَ التَّغيير، فمَا أحبَبَتَهُ أسْتَيقظْتُ على كُرْهِه، والعَكْسُ واقِعٌ. ومَا أْشَتهيتَهُ أستَيقظْتُ زَاهِدًا عنه، ومَا كُنتُ أَهابَهُ أسْتَيقْظَتُ على مُجَابَهتهِ. في مَسيرةُ العِشْرينَ ثمَّةَ جَبَليدِ قَابِعٌ في صَدْري، شَديدُ البُرودَةِ، يُجمِّدَ العُروقَ والشُّعور، قاسٍ وثَقيلَ الحَمْلِ، يَنهَشُ بالقَفَصِ الصَّدري، ويُزمْهِرَ بِالفُؤادِ والرُّوحِ.

ولمَّا أسْتَيقظْتُ أنهَارَ الجَبَليدِ، وانْحَسَرَ الزَّمهريرَ، وذَابَ الثَّلجُ من العُروقَ. أخيرًا، ولَكنَّ وأسَفَاه عَقُبَ التحرُّرِ قدْ حلَّ الصَّيهَد محلَّ هَذَا الزَّمهريرَ، فأشْعُرَ بالحِمَمَ وهيَ تتدَّفقُ بحُرْقَتِها نحوَ الوَريدِ، فصَارَ فُؤادي وقودًا تُشِعُلَ نارًا تلظِّى لا يُرَقُّ حتِّى بالبَردِ، حتِّى يَكادُ لي أنْ أؤمِنَ بإنَّ كلَّ مَا يَلمَسَهُ يَديَّ يَحتَرقْ.

وكُنتْ أُهلِّلَ بِمَجيءِ الشِّتَاء، وكُنتُ أسْعَدَ البَشَرِ حِينَها، علَّ أنْ يَتمكَّنَ زَّمهريرَ كَانونَ الأوَّلَ مِنْ خَتْمِ الحِمَمِ، ولِكنَّ الحِمَمَ قاهرٌ غلاَّب، فَقدْ تجمَّدَتْ عِظَامي وآلَمَتْني أطْرَافي وهوَ الحدُّ الَّذي توقَّفَ عندَهُ البَرْد، فيمَا اللَّهيبَ ظلَّ يَحْجَمَ قَبضَتهُ على رُوحي وفُؤادِي، فَصَارَ الجَسَدُ بمِثَابةِ ساحةٍ يَتَصارعَ فيها أقْسَى القُطْبينِ.

في مَسيرةِ العِشْرينِ، تَذوَّقتُ ذُروةُ الألَمَ حتِّى أحْتَرقَ كَيانيَ وصِرتُ رمَادًا، ومِثَل طائرَ الفِينيقْ بُعٍثْتُ منِ خِلال الرَّمادِ كَيانًا جديدًا. وذُقْتُ نُشْوَةُ السَّعادَةِ، وتجلَّيتُ نحوَ عنانِ السَّماءِ، حتِّى يكَادُ ليَ أنْ أنْسَى بإنَّني مَخلوقٌ أرْضِي، ولِنسْيَاني بإنَّني وُضِعتُ أرضًا، كُنْتُ مِثْلَ إيكَاروسُ، إذْ ظلَّ يُحلِّقُ حتَّى صَفَعهُ القَدَرُ وَعادَ للأرْضِ بقوَّةٍ. ثمَّ أسْتَقرَّيتْ بَقيةِ الزَّمنِ، مُتَّزنٌ رُوح��ا وذِهنًا بلا ألمٍ أو سَعادَةٍ، وأدْركْتُ أنَّ الثُّنائيُّ مُحَفِّزينَ للمُضيِّ قدمًا أوْلَهُ دَافِعٌ والآخَر دَرسٌ.

في مَسيرَةِ العِشْرينِ، ثمَّةَ اسْتِحَالةٍ إمَّا تَجاوَزُتُها أو نِْلتُها، بَعضٌ نَسيتُها، وبَعضٌ لَمْ يَعُدْ يُشكِّلُ تَأثيرًا، وكلَّ حُلمٍ يَتحقَّقُ يَكمُن كابُوسٌ بالإنتظَار عندَ نِهايةَ الرُّواقِ، وكلَّ كابوسٍ نَجوْتُ مِنْهُ كَانَ الحُلْمَ بَاسِطٌ يَديِّهِ في نِهايةِ الرُّواق، وأحيانًا، أَخْرُجُ منَ البَابِ دونَ انْتِظَارِ أحَد.

إنَّ الَّذي يَطْمَعُ في تعاطِيَ السَّعادَة المُستَديمَةِ أنانِيٌّ لا يَحترمَ مَسيرتَهُ، والرَّاغِبَ في احتِضَانِ غياهِبَ الأسَى جبَانٌ هشٌّ لا يَقوَى على مُجابَهةِ عَواصِفَ الوجودِ. وأنَّ الثُّنائيَّ مُمهِّدَانِ لمِسيرةِ الإنسَانِ المُقدَّسةِ في مَحيَاه، وَاحَدةً تًصيِّغُ عَقلهِ والأخرَى تُصيِّغُ لِفُؤادِه، والتَّنفيذُ تحتَ إرادَةِ صَاحِبَهُمَا.

لَقدْ قَلَّ سَرْدِي هذَا العام، سَواءًا هُنَا أو بينَ أورَاقِي الخاصَّة، ويَبدُو أن النَّارَ المُتأجَّجُ يَأكُلَ المشَاعِر، وقودَ الأحْرُفِ، وهَذَا يَجعلني أسيرٌ للنَّدمِ الطَّويل.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ٢٩ دِيسمبَر، ٢٤

[noirbeduzz]

[noirbeduzz]

Francesc Català-Roca

[noirbeduzz]

لازَال التَّاريخَ يُوَاصِلَ تِكْرَارَه،

ومَازَالَ الغِطْريفُ أبَى أن يُدْرِكَ ذَلِك.

فقَدْ أسْرَدَ للإنسانِ مُنذُ بُزوغِ الحَضَارةِ أنَّ الإزَاحَة هيَ قَدَرُ الغِطْريفِ إنْ أُسِيءَ، وإنَّ إزَاحَتَهُ مُوجِعةً لا رَأفةَ فيها، لأنَّ منْ نَال نَصيبَهُ من إساءَتِه لمْ يَعُد يَمْلِكُ لِكَيْ يَخسَر، فَقْد سُلِبَ منهُ آنِفًا كلَّ رَفاهيَّتهِ وحقِّهِ من الرِّعايةِ عدَى إرادَتَهُ، وتِلْكَ هيَ عزيمَتَهُ الَّتي تَقُودَهُا الأسَى والألَم.

وإنْ تَبَاهَى الغِطْريفُ بِبَيادِقِه، وترسَانَاتهِ العَظيمَةِ، وبَنَادِقِه الَّتي تَختَرقَ الصَّوتَ والبَهجَةِ قَبْلَ الجَسَد، فإنَّها لا تتَساوَى بِغَضَبِ المَغلوبِ عليهِ القَابِعِ في غيَاهِبَ الأسَى والقَهَرِ، فَهو يَتمكَّنَ منَ تلكَ القِوَى بقوَّةِ الكَلمةِ والغِنَاءِ والشِّعْرِ والحِجَارةِ والرداء المُهتْرِئ، والمَعدَةُ الجَوفاء، وقوَّةِ إرادَتَهُ، حقَّهُ الأخيرِ كمَخلوقٍ يدبُّ في هذا الوجودِ، فإنْ سَقَطَ ميتًا أمَام جَبروتِ الغِطْريفِ، فقد حَظيَ بالمَجدِ ويُشعِلَ فتيلَ الغَضَبِ في نفوسِ اليَتامَى والأرامِلْ، وإنْ غَلبَهُ فإنَّهُ يَنَال مجدَ الحُريَّ�� تَشكُرَهُ الأجيالَ القَادِمَةِ.

يُسْردُ لنا التَّاريخَ أن الكَثيرَ منَ الغَطَاريفَ والحَضاراتِ لمْ تَسْقُط على يَدِ قِوَى مُحاذيَة لها، بل على أيديْ الأقنانِ والعَبيدِ، الحُفَاةَ والعُرَاة، الغَرقَى بالدُّموعِ والدِّماءَ، المُكبَّلينَ بقيودِ القَهْرِ الَّذي يَخَنِقَ الجَسَدَ والرُّوح، لامُبَاليينَ بالمَصيرَ الحَتمي،

فإنَّ الخَوفَ لمْ يَعُد يُشكِّلَ تهديدٌ بعدَ الآنِ، فَقدْ تشَرَّبوا الخَوفَ، والألَمَ، والقَهَرِ، وأعادَتْ صِيَاغتَهُم لِيَتجلَّوا لمكانَةٍ لا تَعلمَ سوى لُغة العُنْفِ، مَدفوعَةٌ بالنُّزعاتِ الإنتِقَاميَّة لا سَعيًا بالفَوضَى إنمَا لأجَل اسْتِعَادَةِ التَّوازُن، لأجْلِ اسْتِردادِ حقِّ الإقْرَارِ بالوجودِ، لأجْلِ أنْ تُزْهَرَ الأوطَانَ بالزُّهورِ والحَياةِ، بدلاً من الأسلاكِ الشَّائكةِ وأنْ تكونَ مِثَل غيَابَةِ الجُبِّ.

إنْ أُسِيءَ الغِطْريفَ، فإنَّه يَبدَأ بِلَعِبَ الشِّطرنجَ مع القَدَر، ويَبدَأ المُؤقِّتَ التَّنازُليُّ، ولمْ يَتمكَّن أيُّ مَخلوقٍ على القَدَرِ منذُ اليومَ الأوَّل للوجودِ، وإن طَالَت إساءَتهُ فإنَّ القَدَر يَظلُّ يَحاصِرَهُ، إلى أن يَجِدَ ذاتَه وقدْ أصبَح في زَاويَةِ اللَّوحةِ، مُحاصَرٌ لا مَهرَبَ لهُ.

كلَّ عامٍ وإرادَةُ الإنسَانِ تعلوَ كلَّ شيء، وحُريَّتهُ هيَ أثمَن ما يَملك، وكلَّ دَمعةٍ قريبةً وبعيدةً الَّتي سَقَتْ الغَضَب، تنهَمِرُ بَهجةً وتُسْقِيَ الطُمَأنينةِ، وكلَّ مُناجاةِ وصَلواتِ الخَوفِ الَّتي تُلِيت بِشِفَاهٍ مُرتَجفة، تعودُ لِتُتْلَى إمْتِنَانًا، ومَعدة اقتَاتَتْ على الفُتاتِ وخِشَاش الأرضِ تعودُ بِصحَّتها بخيراتِ الأرضِ.

ويُزَال كلَّ شَوقٍ أحْرَقَ فُؤادَ المُحبَّ والمَحبوبِ لِيمْتَلئ بَعضِهم، وكلَّ زَهرةٍ ألقِيتْ على نَعشٍ تُوضَعُ مجدَّدًا على نَافذَةِ منزلٍ، وكلَّ بيتَ شِعْرٍ وتَرنيمَةٍ وسَردٍ تَتغنَّى بالغَضَبِ والشَّوقِ والألمِ تعودُ لِتَتغنَّى بجمَالياتِ الحيَاةِ والأمَلِ، ومَا كانَ حُلمًا يَتحقَّق.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ٨ ديسمبر، ٢٤.

[noirbeduzz]

إنَّ النَّاسُ هَذِهِ الأيَّامِ مَجْلَبةٌ للإرْهَاقِ، والتَّعامُلِ مَعْهُم يَتطلَّبُ المَزيدَ منَ الجُهْدُ العَقْلِي والإسْتِقرَارَ النَّفسي، وأنَّى للإسْتِقرَارِ أن يَجيءَ في زَمَنٍ يَلِدُ الوَليدَ فيهِ وهوَ على حَافةِ الجُنونِ قَبلَ أنْ يَبْلُغَ الرُّشْدِ ويَلتَمِسَ الوَاقِعَ بِرُوحِهِ ويَديهِ.

في زَمَنِ العَولَمَةِ والتغييرِ الأبَدَيِّ، حَيثُ يُجرَّدُ فيهِ الإنسَانِ مِنْ آدَميَّتهِ تجْريدًا تامًا، يُرْغَمُ المَرءُ أن يُضحِّيَ بآدَميَّتِهِ قِربَانًا حتَّى يُؤهَّلَ للرَّكضِ في مِضمَارِ التقدُّمِ والحَدَاثَةِ، حَيثُ يظلُّ يَركُضُ دونَ توقُّفٍ ويَنتَهِزَ ويُواكِبَ قدْرَ الإمْكَانِ مُسْتَنزِفًا جُلَّ طَاقاتِهِ النَّفسيَّةِ، المَاديَّةِ، والرُّوحيَّة، حتَّى يَتمَّ الإقْرَارُ بِهِ ك "آدَميُّ" بَينَ الآخَرينَ، ويُمنَحُ لهُ شَرعيَّةِ المِقْعَدِ بَينَ المُجتمَعِ.

وعَلَى الجَانِبَ الآخَر، فإنَّ المَرءَ مُخوَّلٌ على بَذْلٍ مَجْهودٍ مُضَاعَفْ لإرْضَاءِ مَنْ حَولَهَم، ولِتَلبيَةِ سَقْفَ تَوقُعَاتِهمِ العَاليَة والغَيرُ مَنْطِقيْ في أحيَانٍ كَثيرَة، وأنْ يُحَاذِيَهُم في ذاتِ الرُّتبةِ وفي مَآرِبَ الحَيَاةِ، وفي الذَّائقةِ والرُّؤيَةِ، والقَوْلِ والفِكْرِ، يَعني نُسَخًا مُكرَّرة منَ الأنَا الفَريدُ منْ نَوعِه. وأنْ يُسَايرهُم في كلِّ شُعورٍ، حتَّى لا يُحكَمَ عليهِ بالهَرطَقةِ الإجتمَاعيَّةِ ويُحَالُ للنَبذِ والتَّهميشِ.

الحَيَاة بَالغَةُ التَّعقيدِ، أو أنَّها مُعقَّدةُ منذُ أوَّلُ يَومٍ لَها ولَكنَّ عَاطِفَةِ النَّاسِ تجَاهَ الأمْسِ أضَافَتْ صُورةٌ جَماليَّةً إليهَا، يُعلَّقُ المَرءُ فيها مَابينَ الإنْضِبَاطَ الصَّارمَ لِعبَادةِ العَوْلَمَةِ والرَّأسمَاليةِ، وبَينَ تَلبيَةِ توقُّعاتِ الآخَرينَ، وتَأديَةِ دَورُ جَليسَةِ الأطفَالِ تجَاهَ عَاطِفَتِهم، والرَّكضِ المُستدَامِ لمُحَاذاةِ خُطُواتِهم تحت بَندِ الوَفاءَ والعِلاقةَ النَّقيَّة.

إنَّ هَذَا الشَّرْكِ الَّذي وَقَعَنَا فيهِ لمُجرَّدِ أن يَحظَى المَرءُ بحقِّ الإعترَافَ بهِ كإنسَانٍ مُتمَكِّن، مُتحضِّرٌّ، ويُضْرَبُ بهِ المَثَلَ في الوَفَاءَ والإخْلاصِ والسَّعِيَ بِشَغفٍ دونَ الاسْتِسلامِ يَدْفَعُ المَرءِ نحو الجُنونِ، وتَظْهَرُ عليهِ بَوادِرَ التَّعاسَةِ والعُزوفِ عنِ النَّاسِ. فَقدْ أُرِغِمَ على الإقْرَارِ والتَّوقيعِ على أنْ يُضَحِّيَ بِرُوحِهِ وذَاتِه ولَمْ يُخيَّر بإرَادَةِ نَفسِه، لأنَّ مُقاومَةِ إحدَى الجَانبينِ يَترَتَّبَ ورَاءَهُ عواقبٌ لا تَعرفَ الرَّأفةِ.

ولِكَيْ يَتفَادَى المَرءُ بَرَاثِنَ الجُنونِ، فإنَّ التَّخييرَ الوَحيدَ الَّذي يَحقَّ لَهُ هو أنْ يُخيَّرَ مَابينَ السَّعيَ ورَاءَ مُتطلَّبَاتِ الحيَاةِ الصَّارِمَةِ، أو تَلبيَةِ مَآرِبَ النَّاسِ، فَفِي العُزوفِ عن الأوَّل يُلْقَى المَرءِ غَيَاهِبَ الفَقْرِ والحِرمَانِ والرَّجعيَّةِ، إلى حَيثُ لا يَفقدَ مِقعدَهُ الشَّرعيُّ في المُجتمَعِ وحَسْب، بَلْ يُعرَّض للإذلالِ والمَهانَةِ علنًا. أمَّا في العُزوفِ عنِ الأخْرَى فإنَّهُ يُحيلُ المَرءُ إلى الوِحدَةِ والإنتِقَادِ والتُّهَمِ، ويَتحاشَاهُ النَّاسُ كمَا يَتحَاشوا القُبورَ والنُّعوشَ، ذلكَ التَّحاشي ظَاهرهُ تهكُّمٍ واشمِئزازٍ، وبَاطِنَهُ خوفٌ وذُعْر.

وأمَّا الوِحدَةِ أو الجانبَ الآخر في هَذهِ الحالةِ والأيام - وهيَ وُجهتي لا أدْعو أحدًا للإقرارَ بهِ، ولا هيَ بَديهيَّةٌ ولا قَاعدَةٌ - فِهيَ خيرُ مَلجأ يَعتَصِمَ المَرءُ فيهِ إنْ رَغبَ في إدرَاكَ نفسِهِ منَ الجُنونِ، وخَيرَ تطهيرٍ يُطهرُ المَرءَ ذَاتَهُ وروحِهِ منْ دَنَسِ الزَّمانِ.

إنَّ عُزوفَ الكَثيرَ عنِ النَّاسِ، وانْحسَار ثَقافةِ العِلاقاتِ لَهيَ ردِّةُ فِعْلٍ على الوبَاءَ الوجوديَّ الَّذي أصَابَ الزمَّانِ، وردَّةُ فِعلٍ دِفاعيَّة للتحاشي عن الجُنونِ الَّذي يُحمْلِقُ بنا ويحُومُ حولنَا كل يومٍ. وهو ليسَ بمُوضَةٍ حديثَة، أو إعتنَاقِ ال��َّوداويَّة، أو أعرَاضِ اضطْرَابٍ مُبتذَلٌ إسمَه كما تُروِّجَهُ دجَّالي تطويرِ الذَّاتِ.

ولو سَألتَني مِمَّا أخشَى هَذهِ الأيَّام، فإنَّني لنْ أجيبَ بالمَوتِ ولا الأشْبَاحِ ولا الظَّلامِ، ولكنَّ النَّاس، وأحيانًا الحَيَاةُ بحدِّ ذاتها.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ٧ ديسمبَر ٢٤

[noirbeduzz]

"I heard a bird sing in the dark of December."

— Oliver Herford

[noirbeduzz]

في الثَامِنَ والعِشْرينَ من تِشْرينَ الثَّاني تُطْوَى الصفحةَ الأخيرَة منَ الخَرَيفِ والحُزنِ المَديد، لَقدَ كَانَ خَريفًا قَاسيًا سَقطَتْ فيها المَشَاعِرَ مَع الوَريقاتِ جَنبًا إلى جَنب، لَقدْ كَانَ مَوسِمَ التَّطهيرَ الوُجدَانيُّ ولَيسَ على الطَّبيعةِ وحسْب، مَوسِمُ التَّهيُّءِ للبَردِ القَارِسِ، فالشِّتَاءَ يَت��لَّبُ ذَاتًا صَارمًا مُنْضَبطُ العَاطِفَةِ. والَّذي تمكَّن منَ عاطٍفَتِه فإنَّهُ يُولَدُ من جَديدِ معْ أوَّلُ يَومٍ منَ قَضمَةِ البَردِ، ومنْ كانَ على قَيدِ النِّضَالَ فإنَّ نِضَالهِ يَطُول، ومنْ سَقَطَ في بَراثِنِ الأسَى فإنَّ أسَاهُ رَفيقَهُ حتَّى انْجِلاءِ المَوسِم. وتِلْكَ قَاعدَةٌ مَوضِعَ شَكٍّ لا بَديهيَّة.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ٢٨ نُوفمبَر ٢٤

[noirbeduzz]

أدْرَكْتُ أخيرًا جُذُورُ تلكَ الرُّؤى الَّتي تُراوِدُني في اليَقظَةِ مُنتَشيًا بالمُوسِيقَى، وهيَ رُؤىً مُشوَّشةٌ، غائبةُ التَّفاصيل وغَيْر دَقيقةٍ عَنْ ذِكْرَى في صِبَاي، تُسْرِدُ لِيَ عنْ مكانٍ أو سِمَةً أو حالةٌ وُجدَانيَّة إمَّا قَصَدْتَهَا أو ألتَمَستُها في صِبَاي، قَاتِمٌ مِثْلَ قَلعةٍ شَاهِقة وخَاوية وبَاردٌ مِثْلَ لَيالي كَانونِ الأوَّل، ولكنَّهُ سَاحِرَ الجمَال كمَا لو أنَّهُ أثَرٌ ثَمينٌ لَمْ يَكتَشِفهُ الإنْسُ بَعد. يَكادُ أن يكونَ يُنبُوعَ سَعادَتي.

تِلكَ الجُذورُ في مُتنَاولِ يَدي طَوالَ الوَقتْ ولَمْ تَنالَ انتبَاهي، ظَللتُ أفتِّشَ عنَها سِنينًا في كَبائرَ الأمُورِ مُتجاوزًا أبْسَطُها، حتّ��ى أتيَقَّن بإنَّها لَيسَت هَذيَانٌ. إنَّه أبَي، هو مَنْ وَضَعَ أساسَ تِلكَ الذِّكْرَى عنْ دُونِ قَصْدٍ. تِلْكَ التَّجرُبّة الفَريدَةِ الَّتي تُسردها الذِّكرى لاحقًا سَتُصْبِحَ المُسَاهمَة الأولَى في صِيَاغةِ كلَّ ما يَتعلَّقَ بِذَاتي، لِذَلَك هِيَ إليَّ لا تُقدَّرُ بِثَمنٍ.

والآن انْحَسَرَ الضَّبابُ، وزَالَتْ الغشَاوةُ، وأصْبَحَ يَسيرًا عَليَّ اسِتْدعَاءَ تِلكَ الرُّؤى نَاصِعةٌ التَّألقِ دونَ عَيبٍ، وأحْيَا بِدَاخٍلها، كَمَا لو أنَّها حالةُ صعودٍ. أكَا��ُ أن أنْسَى كُلِّ الآمِ الأمْسِ، وأكَادُ أن أتجلَّى بَهجَةً. وإنَّني مُمتنٌ لِوَالدي، على ذَوقِه في صِيَاغةِ الذِّكرَياتِ.

— مُذَكَّرات فِيتزْجيرَالد، ٢٤ نُوفمبَر، ٢٤

[noirbeduzz]

a hall of hushed prayers and whispered hymns

ig: pixel.planetarium