قبل قرابة عِقدٍ ونصف كان حجم مكتبتي يتنامى أسبوعيا، وقائمة" أصدقائي تتزايد شهريا، وعدد لقاءاتي الثابتة يتضاعف دوريا، وهكذا في اتساع مستمرّ ومشاغل جمَّة، ثم تعلمت من بعضهم درسًا عظيمًا خلاصته أن أقلل الكتب وأزيد القراءة، وأنتقي القائمة وأعظّم القيمة، وأقلص اللقاءات وأكثف الفائدة"
هذه الثلاثون يومًا سريعة التقضي كأنها ومضة برق، حتى لقد وصفها الله تعالى في كتابه تقليلًا بأنها (أيام معدودات)، ومعدودات أي قليلة في غاية السهولة، وعلى قلَّتها هي فرصتنا المواتية للتحرر من أغلال الجسد، وللتحليق مجددًا بأجنحة الروح، وتخليق عوالم جديدة من السعادة، فلا تجعل شيئًا يحول بينك وبين تأمين حياة روحية باذخة في هذه الأيام القريبة ..
ومهما كان تخصصك وقناعاتك وأفكارك ودرجة استقامتك السالفة لا تدع شيئًا يحول بينك وبين الفوز في مضمار رمضان، لا تدع أحدًا يسرق منك بهاء الخلوة بين سواري المسجد، ولذة المناجاة لرب الأرض والسماوات، ومتعة التأمل في آيات الله الكونية، وبهجة موالاة الختمات، وسائر صنوف الطاعات ..
ومن محاسن ديننا أن العبادة بفضل الله مفهوم شامل أعلاه قول لاإله الا الله وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، وفيه عبادات متعدية كالإحسان إلى الناس وتلمس حاجاتهم، وعبادات قاصرة كالذكر وتلاوة القرآن والاعتكاف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان وهذا من العبادات المتعدية، وبالمقابل كان يعتكف في هذا الشهر يخلو بربه وهذا من العبادات القاصرة.
وكثير من الناس يفضل العبادات المتعدية مطلقًا على العبادات القاصرة، ولا شك أن هذا الإطلاق فيه نظر، ولذلك يقول ابن تيمية: (النفع المتعدي ليس أفضل مطلقًا؛ بل ينبغي للإنسان أن يكون له ساعات يُناجي فيها ربه، ويخلو فيها بنفسه ويحاسبها، ويكون فعله ذلك أفضل من اجتماعه بالناس ونفعهم، ولهذا كان خلوة الإنسان في الليل بربه أفضل من اجتماعه بالناس)، فأوصيك أن تجعل لنفسك حظًّا في هذا الشهر من عبادات الخلوة والتأمل والتلاوة والذكر والمناجاة ..
وأوصيك أخيرًا ألا تجهد نفسك فتنقطع في أوائل الأيام، ولكن كن صارمًا في وضع برنامجك المناسب، وإني بعد طول تأمل رأيت أكثر الناس اغتباطًا بمواسم العبادة وظفرًا بجوائزها من جمعوا بين أمور ثلاثة: الاستعانة بالله أولا، وكان لهم خطط صارمة مرسومة ثانيًا، وحاولوا أن يجمعوا بين الأعمال البدنية والأعمال القلبية ثالثًا، فهذه الثلاثة هي أركان السعادة والاستمرار والتوفيق، وأكثر الانقطاع إنما يأتي بسبب التقصير في جانب من هذه الجوانب ..
فخذها وصايا عابرة من مقصر، كان الله معك وبلَّغك أسمى آمالك وغاية أمنياتك ..
لا تتطلب صفو علاقة مع مخلوق، فإن طبيعة الحياة والعلاقات التقلب، ولن تجد صفاء واطراد إلا بعلاقتك بربك، كما يقول سليمان العبودي :"العلاقة مع الناس غزيرة بالمفاجآت غير المحتسبة، وهي مليئة بالتعرجات والمنحدرات الكثيرة، أما الخالق عز وجل فالعلاقة معه شديدة الوضوح إلى درجة مثقال الذر ..
"من بواعث السكينة النفسية ألا تجعل ظنونك ترتحل بعيدًا بعيدًا في توهُّم مكانةٍ عُليا لك في نفوس مَن حولَك من أصحابِك وسواهم، ولا تمتحن مودَّة أحد منهم، وإنما افرح بالظاهر اليسير، ولا تستقصِ فتحزن!".
«أذكر أنِّي رأيتُ أحد الفضلاء كثير البركة في وقته، ينجز في اليوم ما يضطلع به سواه في أيام أو حتى أسابيع!
فسألته عن سر ذلك، فذكر لي أنَّه يُردِّد كثيرًا في ساعات الصباح الأولى: «لا حول ولا قوة إلَّا بالله» مُستَشعِرًا افتقاره وضعفه وحاجته، ووجد لها مَفعولًا عجيبًا».
أذكر أني رأيت أحد الفضلاء كثير البركةِ في وقتِه، يُنجز في اليومِ ما يضطلِعُ به سواه في أيام أو حتى أسابيع! فسألتُه عن سر ذلك، فذكرَ لي أنه يُردد كثيراً في ساعات الصباح الأولى: «لا حول ولا قوة إلا بالله» مستشعرًا افتِقاره وضعفه وحاجته، ووجدَ لها مفعولًا عجِيباً!🤍🌿