#عبد الباسط عبد الصمد سورة الكهف | Explore Tumblr Posts and Blogs

gannaadel · 3 years

Text

استيقظت اليوم من تلقاء نفسي في الخامسة والنصف تقريبا، وهي لعبة أنجح فيها بمعدل 9 مرات من 10: أنوي الاستيقاظ في ساعة معينة، فيوقظني جسدي دون منبه أو سواه.

كنت أفتقد شروق الشمس على النيل. بدلت ملابسي، وذهبت إلى بقعة مهجورة من الكورنيش، تخلو في العادة إلا من كلبين وبضع طيور نيلية، وبعض الصيادين الهواة. أتذكر أبي وولعه بالصيد الذي كان يأخذه إلى أحراش الدلتا ليختفي بالأيام، في رحلات موقوتة بمواسم الأسماك وهجرتها، يعود منها محملًا بما لذّ وطاب من الأسماك. بالطبع كنا نحن في الجانب الممل من هذا الطقس الموسمي، الفريق الذي ينتظر في البيت، فقط ليتورط في تنظيف كميات ضخمة من الأسماك، ثم يتورط مرة أخرى في مطاردة رائحة الزفارة من مطبخنا الصغير.

أصل إلى الرقعة السحرية التي تخفيها أشجار النخيل وسور الكورنيش عن الأعين، وبحرص، أهبط الدرجات الترابية، وأمسك بحبل المركب المهجورة لأحافظ على توازني وأنا أقفز حول السور الحجري المنخفض، الذي يفصل مدخل هذه الجنة الصغيرة، عن الدنيا.

كان النيل عاليا اليوم، وكان المهرة من الصيادين مرتادي المكان قد صنعوا جسورًا بدائية من جذوع النخل، يعبرونها فوق تلك البرك التي يكوّنها المدّ، للمضيّ عميقًا، بعد دغل النخيل وأعواد الغاب الطويلة، وخلف سور حجري آخر نصف متهدم، نحو مكان آخر أوفر رزقًا، وأبعد عن الأعين المتلصصة. في المرة السابقة، لم تكن المياه عالية هكذا، ولم اضطر لمثل تلك الحركات البهلوانية. أما اليوم، فقد جعل ارتفاع الماء عبور الجذوع السبيل الوحيد للمضي قدمًا. جربت السير على أحد الجذوع فلم أقو على الاحتفاظ بتوزاني. كنت أشعر بثقل غير عادي لأيام، ولهذا بالأساس عزمت على هذه الزيارة.

هكذا، اضطررت للاستقرار قرب المنزَل، خارج جنينة الصيد العميقة، في بقعة مكشوفة أكثر لرواد الكورنيش، وللعابرين في قوارب التجديف ممن ينزلون لتدريبهم اليومي في هذه الساعة المبكرة، قبل الشروق.

يجفل جرو صغير لوجودي ورائحتي الغريبة فيملأ الدنيا صياحًا. من الجنة المخفيّة التي لم أدخلها اليوم، يخرج صياد شاب، ينظر إلى مندهشا:

- انت نزلتي منين؟

- من هنا

يبتسم في غير فهم..

- انت تبع مين؟

- أنا على الله. مش تبع حد.

يبتسم.

- انتي منين؟

- من هنا

- طب مش عايزة حاجة؟

- شكرا ربنا يبارك لك.

ينصرف الشاب إلى حيث أتى، لكن نباح الصغير يجذب انتباه شابين - أو ثلاثة؟ - كانوا يعبرون الكورنيش في اللحظة ذاتها. يطلّ أحدهم ويراني، وأسمع صياحًا وسبابًا صاخبًا مسعورًا لأحدهم يحثّ آخر/ين على النزول حالًا، وهمهمات مترددة لا أتبينها، وإن فطنت لكونها محاولات غير مجدية لإثناء السعران عن عزمه. ينقبض قلبي، وتتابع سيناريوهات شديدة القتامة في عقلي.

أقول لنفسي أنني عملت ما عليّ، استيقظت مبكرًا جدًا ل��قليل فرص التطفل/التحرش وبالتالي الاشتباك، وجئت إلى هنا طلبًا لراحة البال، ولنهار جديد جميل أمام الماء والخضرة، والهناء في ريح النيل كما يقول فؤاد حداد. الحارس إذًا هو الله، دعوت من قلبي أن يصرف الله عني أذاهم، وأن يمنحني هذه الساعة التي ترجو روحي سكينتها.

لم تكن مرّتي الأولى مع هذه المناوشات. في المرة السابقة، قفز أحدهم من فوق السور وتدحرج إلى أن وجدته بجانبي. لم يكن صيادًا. كان عابر سبيل. في هذه الجنة الصغيرة، ينقسم الناس إلى صيادين، وسواهم. الصيادون أأمن، أكثر اتزانًا، وأقل رغبة في إثارة المتاعب والتطفل. في النهاية، وسواء كانوا هنا لكسب قوت يومهم، أو حتى للاستمتاع ببعض الهدوء وممارسة هواية مفضلة، ليسوا أهل أذى. الخطورة دومًا في العابرين الضجرين الذين يرون في مرازاة الخلق وسيلة مناسبة لتزجية الوقت. عالجت صاحبنا من المرة الفائتة بصمت طويل جدًا، ثم مواجهة رفيقة صرفته عني بسلام:

- اللي انت بتعمله ده اسمه تطفل. أنا مش جاية اتعرف على ناس هنا، جاية اشوف شمس ربنا الحلوة دي والنيل الجميل وأسمع شوية مزيكا وامشي في أمان الله. حد غيري كان ممكن يخاف ويقوم يمشي، ده اللي انت عايزه؟

-لأ

- خلاص لما تشوف ست قاعدة لوحدها بعد كده سيبها في حالها خالص.

أذكر كيف ضحك أصدقائي على سذاجة ما قلته لاحقًا، وكيف دافعت عن فعلي بأنه: 1-نجح في صرفه عني 2- بالمعروف، ودون الدخول في اشتباك يعكر صفوي.

مر الموقف آنذاك بسلام، لكنه جدد تفكيري في حق النساء في التنزّه. منذ شهرين أو أكثر أردت أنا وصديقة أن نخيّم في محمية وادي دجلة لنشهد اكتمال البدر. فوجئنا بأن سياسة المكان تمنع مبيت النساء بمفردهن. إما أسر، أو مجموعات رجال. أيّ عيشة مؤسفة تلك يا رب!

أخرجت السماعة من حقيبة ظهري الصغيرة، وعلا صوت عبد الباسط عبد الصمد يتلو سورة الضحى فالشرح، وهي عادة استحدثتها منذ ما يزيد عن الشهر، فكان لها أبلغ الأثر على سكينة نفسي وصفاء عقلي. صارت ركيزة أساسية في روتيني الصباحي، لا يسبقها سوى سقاية الزرع، ووضع الماء والحبوب لليمام، وكوب كبير من القهوة.

وبعلوّ صوته، خفتت الأصوات الأخرى، وبدا كما لو أنهم غادروا. ارتحت قليلًا، وخفت صراخ الجرو وتحوّل لنهنهات خافتة لعوب، ثم سكن تمامًا، وافترش الأرض خلف جذع النخلة الذي كنت أجلس عليه، ونام.

انتهت التلاوة فظهرت الأصوات الفظة من جديد، وابتسمت لصوت القرآن الذي يبدو أنه يبعد الشياطين فعلًا. لنسمع الكهف إذًا، فهو صباح الجمعة على كل حال.

علا صوت عبد الباسط بسورة الكهف، وانصرف تركيزي للتلاوة ولزرقة النيل، ومالك الحزين الذي وقف بين أعواد الغاب القريبة ينظف ريشه هنيهة، ثم حلّق فوق الماء مبتعدًا. يا بديع خلقك يا رب.

لكنني سرعان ما انتبهت من أفكاري الآمنة لاهتزاز جذع النخلة التي أجلس عليها، بعبور جسد آخر فوقه. إنه هو. الصاخب الشقي التعس، وصل إلى هنا، وجلس على جذع مجاور. تجاهلته تمامًا، وجاهدت انقباض قلبي الذي كاد يدفعني للنهوض والرحيل.

- الله يفتح عليكي يا أختي.

قالها وجلس، فأومأت مبتسمة، وأشرت له، دون كلام بالصمت والاستماع، فسكت تمامًا.

من خلف السور، تعالت أصوات الصيادين تطالبه بالعودة، فتعلل بحرارة الشمس وبقي في مكانه.

- لما تصطادوا حاجة اندهولي، حاجي على الفطار

وأتبعها بضحكة مقيتة، فقلت لنفسي سبحانك يا رب. اكفنيه واكفه شرّ نفسه.

مرت الدقائق بين السكون والتوجس، وخدرت ساقي فمددتها وتململت في جلستي، فنهض في لمح البصر ومد لي يده بفرخ كارتون

- خدي اقعد عليها

- شكرا مش عايزة

- هتبهدلي هدومك

- شكرا يا سيدي مش عايزاها

- خدي باقولك احنا اخوات

- من فضلك خلينا نسمع

فعاد إلى جلسته، وسرعان ما فرغ عبد الباسط من تلاوته، فأتبعتها بتلاوته لآية الكرسي.

"الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم.."

سرحت في اسم الله الحيّ. هو حيّ في كل شيء. حتى في هذا الشقيّ نفسه، ولو لم يدرك ذلك. حيّ في كل هذا الذي تشرق عليه الشمس أمامي، وفي اليعسوب الأحمر الذي رفّ بجناحيه الرقيقين حول عود الغاب عند قدمي ثم ابتعد، وفي الصيادين الواقفين في جنّتهم المعزولة عن العالم على بعد خطوات من هنا، وفيما يفلحون في صيده، وفيما يهرب منهم. وفي قلبي. الله حيّ، أنشودة الدراويش والمجاذيب. ربما ليسوا مجاذيبًا رغم كل شيء.

من أسوار الكورنيش، يتسلل شعاع ذهبي عريض حار مؤذنًا بموعد رحيلي، فأطلب سيارة وانتظر عبد الباسط أن ينتهي من تلاوة آية الكرسي للمرة السابعة، فأصدّق وأغلق التسجيل، واجمع حاجياتي وانهض.

-نفضي هدومك

- شكرًا

وأجد السير عائدة إلى السطح، ومن خلفي يتعالى نداؤه وصفير وأصوات غريبة أخرى، فلا ألتفت ولا أجيب. عند السور، أجد أحد المراكبية في قمرة المركب المهجورة، عجوز بسّام. يتابعني وانا أقفز القفزة الصغيرة إياها ممسكة بحبل المركب فيقول "على مهلك..خدي بالك". ابتسم له واصعد الدرجات الترابية إلى أعلى، حيث تنتظرني السيارة التي ستحملني للبيت.

53 notes · View notes