#طارق الجارد

[al-athir]

مضى على اختراع البندقية ٥ قرون، ولا زال السيف أعلى استعارات القوة. ومر على اختراع الطائرة المقاتلة قرن، وما زالت الخيل أرقى مجازات الفروسية. بعيدا عن قدم تجربة البشر مع السيف والخيل، والوثبة التاريخية في تطويع الحديد وعسف الخيل، ثمة شجاعة شعرية لا تخفى في القتال من مسافة العدم!

-طارق الجارد.

[secaii]

يوم الإثنين، فيليه السلمون المقمّر مع أرز البيلاف البري، في مطعم روبن. سيستغرقك المشي إلى هناك ١٥ دقيقة. أو سبعة عشر دقيقة إن اعترضك الرجل على تقاطع جادة كريسينت مع طريق المسيو ميزونيف، محاولا دعوتك لاتباع “شهود يهوه”، وناولك منشورات للانضمام إلى رعيته. ستتأمل الطاولات الفارغة وأنت تتجه مثل صاروخ موجه، نحو منضدة الحانة، لتسدل معطفك المخملي وشالك على ظهر المقعد المرتفع، وتعتليه. ستكون الساقية في أيام الإثنين: ريبيكا. وبعد دردشة بسيطة عن يومك وعن يومها، تسألك بابتسامة: “المعتاد؟”. وتجيب بهزة رأس مقتضبة وابتسامة، تثير استعجاب الجالسين على المنضدة.

يوم الثلاثاء، في جولييت، يكون طبق اليوم باستا التورتليني المحشوة بجبن الماعز، مع الصوص الزهري بفطر البورتشيني. ستمشي ٢١ دقيقة لتصل إلى جولييت. وعليك أن تضيف لذلك ثلاث دقائق إذا وافق حضورك ميعاد عرض فيلم المساء. يوم الثلاثاء هو يوم التذاكر المخفضة للمتقاعدين في السينما. ما يعني أن عليك تهدئة خطوتك وراء الكهول والكهلات الذين يمشون الهوينى لأن معنى الزمن لديهم اختلف عن معناه عندك. وفي أحيان، عليك أن تفتح الباب أمامهم لتحظى ب”شكرا” وابتسامة وسيعة -تكبر بمقدار كل عقد يكبرونه- من كهل يتع��ز، أو عجوز على كرسي آلي. وبمجرد أن تدخل إلى جولييت، سيسألك موظف الاستقبال، الشاب ذو الذاكرة التي لا تحتفظ بالوجوه أكثر من أسبوع، إن كنت حجزت طاولة. و ستجيب عليه-دون أن تذكر اسمه هنا رغم أنك تتذكره جيدا- كما تفعل كل أسبوع أنك ستجلس على البار. لتراك الساقية “آن ماري” من بعيد و تبتسم لك، مشيرة برأسها إلى مقعد احتفظت لك به على البار بينما هي تخفق المشروبات. حينما تفرغ لك، لن تسألك ماذا تشرب؟ فهي تعرف أنك لا تشرب الكحول. لكنها ستخوض أحاديث خفيفة معك، وهي تسكب مسحة من زيت الزيتون في صحن صغير وضعته أمامك، ثم تنثر عليه قطرات من خل البلسمك، قبل أن تدفع سلة الخبز الدافئة نحوك. لتقطع ندفا من النعيم و تغمسها في اللوحة السريالية على صحنك، فتلتهم أحلاما لم تخطر على سيلفادور دالي، بانتظار أن يأتي طبق اليوم. في ذلك الوقت، الوقت الذي يستغرق الشيف أن يطهو باستا التورتليني، تتدرب على فرنسيتك مع “آن ماري”، وهي تتدرب على الإنجليزية معك. تخاطبها بالفرنسية وتجيبك بالإنجليزية، في مقامرة خطيرة -و لكن لعوبة- حول التيه في الترجمة.

ستيك ريب آي بدون العظم، مع طبق جانبي من سلطة الكرنب الحلوة و البطاطا المقلية، هو طبق الأربعاء في “حانة دون”. وفي الأربعاءات الشتوية الثقيلة، التي تتطلب منك نفض الثلج عن معطفك تحت مظلة المدخل ومسح بوطك المبطن بالفرو قبل الدخول، سيمكنك إضافة الجبن المذاب بمرق اللحم البقري على البطاطا لدواعي الدفء. يستغرق المشي إلى هناك ٢٣ دقيقة، لكن عليك أن تضع في الحسبان أنك قد تتأخر دقيقتين إضافيتين في طريقك لكي تتملص من الحارس عظيم البنية ذي الصوت الجهوري، وهو يحرضك على الدخول إلى ملهى التعري لمشاهدة كل ما هو جديد ومغري.

عند مدخل “حانة دون” ستأخذ منك المظلة جوزفين و تساعدك في خلع معطفك و تعليقه في ركن المعاطف، وتشير إلى منضدة البار. حيث ستخدمك الساقية آليكساندرا، التي تحب أن تنادى باسم آليكس، في كل الأربعاءات ماعدا الأربعاء الأول من كل شهر. إذ تعمل في نوبة ليلية، ناقلة للمرضى والأجهزة في طوارئ المستشفى (وفي ذاك الأربعاء سيخدمك محلها مارتين). لن تعرف لماذا آليكس تصر على هذا الاسم الذكوري رغم أنوثتها وصغر بنيتها، حتى تراها تكوّر ال Pony Tail من شعرها برباط شعر تستله بخفة من معصمها، ثم تحمل المرضى من سرير إلى سرير، أو تدفع الأجهزة الثقيلة في الدهاليز. تعلم أنك رأيتها و رأتك في الطوارئ بضعة مرات. لكن أحاديثكما في حانة الأربعاء الرتيب، تتظاهر أن ذلك عالما موازيا لا علاقة لكما به، وأن هناك شخصا يشبهك، وآليكسا تشبهها يقضيان الأربعاءات بالعمل في نوبات ليلية، لكنما لا تعرفانهما. تداخل العالمان مرة، حينما سمعتما صوت ارتطام أحدهم على منضدة البار وسقوطه في نوبة تشنج. لتفزع باتجاهه لإسعافه، بينما كوّرت آليكس شعرها وهبت معك لحمله وقلبه على جنب حتى أتت سيارة الإسعاف. لتكتشف أن هناك -دوما- نفق خفي يربط العالمين المتوازيين، قد يظهر في أية لحظة و عند أي بعد، يتلقفك دون أن تعلم، أو يقذف بأحدهم في سبيلك دون أن تتوقع. ولا يمكنك تجاهل هذا النفق.

آليكس، وبمجرد أن تجلب لك قطعة الستيك، ستأتي بسكين الستيك الضخمة وتقسمها نصفين لتضع النصف في صندوق فليني مع حصة من البطاطا لتأخذه معك للمنزل. هي تعرف عادتك في ترك جزء من الستيك الذي يفيض عن حاجتك لإعطائه لل Room Mate، هذا الرفيق الذي لم يأت معك قط للحانة. ما لا تعرفه آليكس، أن ال(Room Mate) كانت تجربتك لنكتة لم تجد قفلتها، للسخرية من وطأة وحدتك. ففي طريقك إلى الشقة ستمر أمام كنيسة يفترش متشرد على حديقتها كيس نومه، وستعطيه قطعة الستيك. والحق يقال أنك لم تكذب، ونكتتك وجدت قفلتها الساخرة و السوداء بمرور الزمن. ففي غياب الرفقة، تصبح الخراسانات الاسمنتية حاجزا وهميا للتفرقة بين الشقة و المدينة. و سيصبح المتشرد رفيقك كل مرور أربعائي، تتشاطران الوحدة، و تحرسانها من وحشة المدينة.

للوحدة أشكال متعددة، خصوصا في المدن التي تعطيك وهم الزحام، وتغويك بزخم الحياة الحضرية الصاخبة. من أشكال الوحدة أن تحفظ طبق اليوم في مطاعم المدينة، حتى لا تطبخ وليمة لشخص واحد في نهاية يوم من الكدح والجوع. من أشكال الوحدة أن تجلس على منضدة الحانة، رغم أنك لا تشرب الكحول، فهي محض امتداد لمنضدة البيت الخاوية من مقعد مقابل. الوحدة أن تقضي مساءاتك تحادث الساقيات، لأنك بدأت تحادث نفسك بصوت عالي في مساءات الشقة. والوحدة أن تنصت لسرد الجالسين على الحانة بجانبك وحواراتهم بصمت، لأنك مللت سرد أولئك البشر ثنائيو الأبعاد الذين يظهرون في التلفاز، وبحاجة للخروج للتأكد من أن مساءات المدينة وسط الأسبوع لا تخلو من بشر ثلاثيي الأبعاد، وأن تلفاز شقتك لم يلتهمهم.

[leena-rosy]

"لكنه أدرك أن الفرح يستدعي كثيراً من الافتعال، بينما لا يتطلب الحزن شيئاً. كان الابتسام و الغناء و التصفيق في الطابق الأعلى، أكثر مشقة عليه من الدموع التي هطلت منه اليوم بغير قصد، سوى أنه رأى أن للناس أحزانهم الخفية. فتحت كل هذه الأفراح المعلنة، قبو مجهول من الأحزان".

طارق الجارد