بعقيدتي نؤمن بالتقمص، بتناسخ الأرواح، بعقيدتي لا نزور المقابر.. إذ أننا لا نزور القمصان الرثة البالية التي يدعونها بالجسد، في عقيدتي الروح تحلق ولا تموت.. في عقيدتي تعود الروح للحياة بذاكرة او بدون.. بهيئة جديدة وتعيش لأنها تستحق أن تعيش وتعيش وتحب وتحب
انا كنت هنا فيما مضى.. إن مت.. سأعود.
وأنتِ أيضاً..
سأبحث عنك.. وأعرف أن الجسد وإن تبدّل والهيئة وإن تغيّرت.. سأعرف روحك من بين عشرات البشر، سأعرف روحك وسأحضنها
نلتقي يا حبيبتي يوماً ما في أرض حنونة.. نلتقي بين الورود وتغريد العصافير.. نلتقي في فصل يوغا.. أو في بار.. أو محل فساتين.. نلتقي أمام البحر الشاسع.. نلتقي على السطح.. تحت سماء مطرزة بالنجوم.. نلتقي، أعدك.
-أتعمد بدء اليوم بطوفان من الروائح القاهرة: عطور الورود والڤانيليا وشراب الكرز واللوز المر. منذ أن وطدت تعاملي بالجسد البشري في أضعف حالاته وأنا قد أصبحت شديدة الحساسية للرائحة. أنتبه لها وتصعقني كالكهرباء، تفغمني وتعلق بأنفي حتى بعد مغادرتي إياها إلى مكان بعيد. أتجهز لطوفان الروائح بطقس مفصل من سكب كل الأشياء ذات الرائحة في دولابي على جسدي قبل النزول للشارع.
-لشوارع القاهرة رائحة ومذاق ترابي جعلته المستشفى -بالمقارنة- أكثر احتمالًا. أخرج من بوابتها فأشعر أن رائحة الشارع وهي دخان وأتربة خالصة مقلية في شمس جهنمية، أقول أني أشعر بأنها أجمل رائحة في العالم. تتواتر في القاهرة محطات من الرائحة على خلفية من رائحة ترابية ثابتة: تتتابع مكبات القمامة العشوائية خلف الأدخنة المثيرة للغثيان للقمامة المحترقة خلف رائحة المخلفات الحيوانية. على الطريق الدائري صرت أعلم الأماكن برائحتها المميزة وليس بدلالتها الجغرافية.
-للمستشفى سلطان خاص على حواسي. تربيني على تحمل الأشياء والظروف وأذى الشعور والعاطفة والإحساس. تغير نفوري الطبيعي من الأشياء وتحوله إلى احتمال وربما إلى محبة غامضة. أعشق الرائحة الحادة للدياثيرمي. أتقبل رائحة أكسدة الدماء الشهيرة في قسم النساء. لم أعد أهتم للتواجد المفرط للسوائل الجسدية في محيطي. بالأمس قلبت مرتبة مبقعة بالدماء ونمت على جانبها الآخر.
في المستشفى رائحة المطاط الفائحة من الجوانتيات. رائحة البيتادين المحترمة. رائحة الكحول التي صرت أعشقها. رائحة الكلور التي صرت أحترمها. رائحتا الدم والبول. رائحة الأجساد البشرية المتقلبة في عرقها في عنابر القسم المقطوعة عنها الكهرباء للحد الأدنى بسبب الإجراءات التقشفية. رائحة بخاخ الجسم الذي أرش منه متى رغبت في استعادة إنسانيتي. رائحة المطبخ وردهته في ساعة الغداء والتي تصيبني بفقدان الشهية لأنها تختلط برائحة الاستقبال. رائحة الاستقبال الشبيهة تمامًا برائحة مرحاض.
لكن أكثر هاته الروائح سطوةً وتأثيرًا علي -إلى حد أني ابتعت كمية مجنونة من العطور من فرط تأثري بها- هي رائحة السيراميك الممسوح للأقسام الداخلية والاستقبال. أسفر الفقر الحديث في هذه المرحلة عن نقص حاد في كافة مستلزمات كل شئ، من ضمن ذلك الصابون والكحول ومواد التطهير والتعقيم. -أشتري زجاجة صابون للأيدي وأحملها معي في حلي وترحالي-.
على السيراميك المغطي لاستقبال وقسم النسا تنسكب السوائل الجسدية بسخاء. بدءًا من السائل الأمنيوسي للأجنة وليس انتهاءً بالدم والقئ. يضطر العمال لتخفيف الصابون بطريقة تفقده خواصه أصلًا ويتحول لمجرد ماء، ويستخدم هذا الماء المجرد في مسح الأرض، وهو في واقع الأمر لا يفعل إلا توزيع السوائل على مساحة أكبر وتغذية الكائنات الدقيقة عليها وصنع طبق بيتري هائل رائحته هي أقوى الروائح تأثيرًا على حياتي كما رائحة العنبر على العدد الكلي للحيتان في قرون الصيد الجائر. تدفعني تلك الرائحة للبكاء والعويل. تؤلم عيني وحلقي وتلت��ق بحواسي فأظل أتبينها في الشارع حتى أصل للبيت.
-يرأف طبيب الامتياز بحالي ويعمد لشراء عيدان بخور من أحد عطارات السيدة زينب. في هويد ليل الاستقبال أطلب من كاتب الاستقبال أن يشعله لي وأطمئن لراحئته وأنا التي لطالما كرهت رائحة العطور الدخانية الشرقية.
-حالما أصل للبيت أغرق نفسي في حمام من الأشياء المعطرة بحماس ديني. أضمخ نفسي بكل العطور الممكنة بصورة طقسية كأني البابا. أشعر برضا وراحة لا مزيد عليهما. ربما هذا هو ما شعر به الأنبياء بعد التعميد في الأنهار المقدسة: تطهر من البشرية. أتقلب في جزيئات الرائحة البشرية حد الإشباع ثم أعود لأغسلها عن جسدي وأستبدلها بالڤانيليا فأشعر بتجديد اشتراكي في رغبة البقاء على قيد الحياة. تفتح تجربتي الجديدة للروائح وحواسي المشحذة لها وعيي على معانٍ لم أختبرها من قبل، كأني أعيد فهم معنى أن يكون الواحد/ة إنسانًا، ما ذاك إلا أن يختنق في الروائح الخانقة للعالم والبشر ثم يأخذ قرارًا بأن يستحم؟ أليست هذه هي الرحلة الموضوعية والروحية؟ تعلمني الخريطة لليومية للروائح تقدير ما أشارت له هانا أرندت "بالسحر الحديث للأشياء الصغيرة"؛ رغم أني لا أعد رائحة محيطك شيئًا صغيرًا. هكذا أكتشف السحر القديم للأشياء اليومية، والسلطان المبسوط للحواس على الإنسان. وأتعلم.
ما تقوله لنا الكتب الجنسية الرخيصة من أن الحب هو توفيق اثنين في أن يصلا بعلاقتهما إلى ذروة الاشباع الجنسي..
كلام غير صحيح.. فالاشباع الجنسي يمكن تحقيقه بايسر السبل بدون حب وبدون تفكير وبدون عناء يذكر.. وهو أحيانا يتم في لقاء المصادفات.. وفي العلاقات العابرة.. التي لا تخلف شيئا في الذهن ولا تترك أثرا في الخيال.. وأحيانا يتم مع وجود الكراهية..
وهو إشباع ينتهي في أحسن الأحوال إلى حالة من الوخم والخمول والتبلد الذهني...
وهو إشباع يمكن أن تمنحه أية امرأة مثل الأخرى..لا يشترط امرأة بعينها.. لأنه اتصال أخرس في الظلام.. يمكن أن يحركه الحر وتذكيه لزوجة الأجساد.. بأكثر وأكفأ مما يحركه الحب...
وحينما يشتاق الرجل إلى هذا الاشباع، فهو في العادة يشتاق إلى الاشباع نفسه لا إلى إمرأة بالذات.. وهو لهذا يحاول أن يحقق له ظروفه التي يواتيه فيها، فهو يسعى إلى الخلوة ويتعاطى المخدر إذا كان مدمنا، أو يشرب إذا كان سكيرا أو ينزل على الأكل إذا كان أكولا.. ثم بعد ذلك أية امرأة مثل الأخرى ما دامت عندها المواصفات الجسدية المطلوبة... وما دام هو في حالة لياقة..
وكلما كان الاثنان في حالة غباء وتبلد فالمتعة عادة تطول... وكلما استطاع الرجل أن ينسى أن معه امرأة تشاركة فراشه كلما كان أكفأ في أداء وظيفته.. فلا عجلة .. ولا توتر.. ولاحتى إحساس...
هل يكون هذا حبا..
أبدا..
برغم كل ما يقال عن الجنس وأهميته في نظريات علم النفس الحديث.. وبرغم كل ما يقوله فرويد وغير فرويد.. فلا شك أن الحب شئ غير الجنس...
لا أقول هذا لأني رومانتيكي.. ولكني أقوله لأني علمي أنظر نظرة علمية إلى الانسان.. وأرى أن الانسان كائن شديد التعقيد لا يمكن النظر إليه باعتباره جسدا فقط، ووظائف عضوية فقط وأحشاء فقط وغرائز فقط...
ومن ينظر إلى الانسان هذه النظرة المحدودة لا يكون علميا.. وهو في الواقع يقتل الانسان بهذه النظرة ويحوله إلى رمة وجيفة.. وبالتالي لا يصل فيه إلى حكم صادق..
الحب أدواته الذكاء والحس المرهف والعاطفة المتوقدة والبصيرة الشفافة والفطرة النقية والوجدان المتألق.. ولا يمكن أن تكتمل لذاته في جو المخدرات والغباء والبلادة الذهنية...
الحب لا يذكيه الحر ولا تثيرة لزوجة العرق.. ولايمكن أن تحل فيه امرأة محل أخرى لأنه ليس علاقة الرجولة بالأنوثة.. وأنما هو علاقة رجل معين بامرأة معينة..
والحب لا شبع فيه لأنه ليس خطة وفخا إلى لقاء جسدي عابر ولكنه تجاوز دائم للواقع واحتمالاته وتخط لحاجز الجسد بحثا وراء لقاء عميق واتحاد في الجوهر.. وهو اتحاد مستحيل.. فالاثنان لا مفر من أن يظلا اثنين ولن يصبحا واحدا أبدا.. ولهذا فالحب مقضي عليه بالتشوق والنزوع والالتياع والجوع بلا شبع...
والحب لا يذكيه إشباع الجنس.. لأن الحب هو المانح الذي يمنح لذة الجنس، وهو الذي يجعل هذه اللذة قريبة ميسرة تحققها لمسة يدين ولقاء نظرتين.. بينما يظل الجنس بذاته لذة خاوية لا تستطيع أن تمنح حبا..
والحب الحقيقي لا يطفئه حرمان.. ولا يقتله فراق.. ولا تقضي عليه أية محاولة للهرب منه.. لأن الطرف الآخر يظل شاخصا في الوجدان..
ألم أقل إنه لون غريب من ألوان الاتحاد.. كما تتحد العناصر في الطبيعة فينشأ عنها مركبات لا يمكن تفريقها إلى عناصرها إلا بالنار والكهرباء...
كما يذوب السكر في الماء فلا يمكن فصله إلا بالحرارة والتبخير .. وحتى البللورات التي تنفصل في تلك الحالة تظل محتفظة بالماء في داخلها على هيئة "سكر نبات"..
وأحيانا يكون الاتحاد وثيقا عميقا مثل اتحاد مكونات الذرة..إذا تيسرت القوة الكافية لتفريقها انفجرت وأدت إلى قنبلة ذرية..
والحب بالمثل اتحاد شديد العمق يؤدي التفريق فيه إلى سلسلة من انفجارات العذاب والألم قد تستمر حتى الموت.. وقد تنتهي بتغير الشخصية تماما وتحولها.. كما يتحول الراديوم بعد تفجر الاشعاع بداخله إلى رصاص..
أي لون من ألوان الاتحاد هو!؟
إنه قطعا ليس اتحادا بالجسد..
وليس هوى نفسين..
ولا تلاؤم مزاجين..
ولاتفاهم عقليتين...
ولا هو العثور على فارس الأحلام..
ولاهو ارتياح الفطرة إلى فطرة أخرى تعاشرها...
إنه يحتوى على كل هذا بالطبع.. ولكنه يحتوي على ماهو أكثر..
وما هو أهم..
على وحدة أعمق من كل هذه الاتحادات الواضحة المفهومة..
وحدة أصيلة كالقدر والضرورة والمصير تجمع الاثنين عبر كل حدود الممكن والواقع، ورغم حوائل الزمان والمكان..
وحدة لا يجدي فيها فراق ولا تبترها قطيعة.. فهي تبدو أحيانا كوحدة تاريخية قديمة..إذا كان من الممكن أن يكون لكل نفس من هذه النفوس تاريخ قديم قبل أن تولد.. فكل منهما يشعر أنه كان يعرف الآخر منذ زمن وأنه ليس غريبا عليه..
كل منهما يتعرف على الآخر كأنما يتعرف على شخص قديم حميم...
وحدة غامضة لم يجد لها العلم اسما..
ولا مانع من أن تستعير لها التسمية القديمة "الوحدة الروحية"..
تسمية أكثر غموضا.. ولكن ما باليد حيلة..ليس عندنا غير هذه الكلمة القديمة "الروح" نسمي بها ما نشعر به ولا نعرفه في داخلنا..
وإذان كان المفكرون الماديون لا يعترفون بهذه الكلمة.. فهذا لن يحل الاشكال بالنسبة لهم.. فسنظل نسألهم اسما لما نشعر به ولا نعرفه في داخلنا.. وسيظل هناك شئ وراء مدركاتنا الحسية.. شيء حقيقي لا وهمي.. يحتاج إلى تفسير..
ولهذا يبدو دائما في نهاية التفكير أن الحب كالفن والدين والحرية تقف كلها على أبواب الميتافيزيقا.. وأنها ظواهر مختلفة لما يخفى وراء مدركاتنا الحسية..
ولا نقصد هنا حب نواصي عماد الدين والأمريكين وكوبري قصر النيل بعد الساعة الواحدة.. ولا حب سن الستاشر.. ولاحب آخر السهرة بعد أن ينتهي برنامج الكباريهات ويبدأ نشاط البارات.. ولا حب "ابو عيون جريئة" ولا كازانوفا.. فبعض هذه الألوان من الحب مرض وبعضها فضول وبعضها فراغ وثراء ودلع وفخفخة وبعضها غرور وحب للنفس أكثر مما هو حب للآخرين وبعضها مصالح وصفقات وأغلبها نزوات جنسية عابرة.
أما حبنا الذي نقصده فهو ذلك الحب النادر الذي ينمو في علاقات قليلة ويعيش ويتحدى النسيان ويضفي النبل والجلال على أبطاله ويصبح حكايات تردد باحترام وتأثر..
ومثل هذا الحب نادر في زماننا ندرة الصبار المكتنز بالماء في الصحاري الجرداء.. ولكنه موجود على أي حال.. والشكر لله..
أذكر أني قرأت خبر طريف في النمسا أن شاب أدخل رأسه بين أسوار الحديقة ليقبل حبيبته ولما انتهى من قبلته حاول أن يخرج رأسه فلم يستطع.. واستدعى الأمر الاستعانة ببوليس النجدة..
وفي غراميات هذا العصر الذري يحدث كثيرا أن يدخل شاب رأسه في قفص الحب ثم لا يعدم وسيلة لإخراج رأسه والافلات بجلدة كلما أراد دون الحاجة إلى بوليس النجدة.. وقد يدخل رأسه ويخرجها عدة مرات في عدة أقفاص..
ولكن في حبنا الذي حكينا عنه حيث الحب قدر وضرورة ومصير لا يستطيع العاشق أن يخرج رأسه من قفص الحب إلا بقطعها..
ان ترحل بعقلك عن صغار العقول فلا يستفزك قولهم ..عن من لايفهمك فترحل بصمتك وشرودك فتجد الراحة ...واحيانا يكون رحيلك داخلي مؤقت لتنجو بجميع أفكارك من فكرة مدمرة ..ان ترحل من الواقع للخيال فتري الزحام يتلاشي والازعاج يتحول لهدوء وبردا وسلاما ..أن ترحل مع معني في بيت شعر لامس قلبك فيعود نبضه ..وأجمل الرحيل الذي لايكون بالجسد وانما بالروح عندما تغادر بكل كيانك لتكون في معية خالقك ..فكرا وعقلا وروحا ودمعا وارتجاف قلبك بين يديه في مناجاة بأسرار أعماقك ...وتعود بعدها لسلامك وأمانك وهدوءك وثباتك أمام كل تقلبات الحياة وصعوباتها..
أحد الحواجز الفاصلة بيني وبين المرحومة أم كلثوم وكل جيلها ومن قبلها من الفنانين هو أن نموذج الحب اللي بيتغنّوا بيه وله باستمرار لم يعد موجودا، على الأقل بالنسبة لي. الواحد ابن لحظة زمنية مختلفة، وقواعد تشكيل اجتماعي مختلفة كليا. وانا مش بتكلم عن أم كلثوم بشكل محدد ولكن عن المزاج العام وقتها. الأغنية العربية الحديثة تجد جذورها الأبعد في الموشحات الأندلسية، والموشحات نفسها امتداد وتطوير للشعر الذي بدأ قبل الإسلام في جزيرة العرب. هكذا وعلى طول الزمن الطويل كان المزاج العام لشعر الغزل القديم والأغنية الحديثة مزاجا من الشحتفة والصعبانيات. تحيلك القصيدة القديمة على عوالم مليئة بالبلاط والملوك والسلاطين والجواري والعبيد والقيان وسقيا الخمر ودوران الكأس، عوالم من المسافات الطويلة والفوارق الطبقية والجغرافية بين الحبيبين وخيول وبعير وصحاري، ومهور من الفضة والدهب والنوق الحمر وحجات غريبة جدا. قصص الحب نفسها مليئة بالهجر والوصال والترحال والصبابة والوله.
حتى بعد التحديث لم تتخل الأغنية العربية عن الكثير من عالمها القديم، رغم انها تركت الحِسان والقيان والجواري والكؤوس، إلا انها ظلت لحد كبير محتفظة بمشاعر انسانها القديم، الهائم في الصحراء بسيفه وخيله وخادمه، تنعى نفسها وتتأسف على ما كان. أغنية ملئية بالخذلان والخديعة والخناجر المرشوقة في الظهور. ميتافيزيقا شعر الغزل القديم كانت ميتافيزيقا القَدَر والنصيب والحظ وانتهاب الفرص وعطف الزمان. كل هذا وأنت في عالم آخر أساسا.
الشاعر القديم يشبه مرور حبيبته من بيت جارتها بمرّ السحابة فلا ريث ولا عجل! وأنت حبيبتك تمشي في الشارع مذعورة. عبد المطلب يشحطط نفسه مرتين يوماتي من السيدة للحسين عشان ينول كل الرضا! عبد الوهاب ينتظر سماح الزمان ليجالس حبيبته على شط النيل. وأنت لا تجد نفسك في أي من هذا رغم حلاوة الشعر ولذاذة صوت الست وعبد المطلب والله. عنترة يود تقبيل السيوف لأنه رأى ابتسامة حبيبته والرماح نواهل منه. وأنت تسمع الأغنية وتقرأ القصيدة فتستمتع بالطعامة لكنك تشعر بالانفصال التام عن العالم الذي جاءت منه الاغتية والقصيدة. ربما لأن المشوار من السيدة للحسين فرهدة وشط النيل تمت عسكرته وكورنيش اسكندرية اتقفل وانت لا سيف لك ولا رمح.
كل هذا يا عزيزي واحنا لسه متكلمناش عن انحيازاتك النسوية واعتراضك على أي أغنية او قصيدة تظهر فيها حبيبتك كنهد وساق وقدّ وقوام وعيون ورموش وخدود. أنت تبحث عن فتاة تمشي معاك الطريق كتفا بكتف ورأسا برأس ولا تجد غنوة واحدة تحمل هذه الفتاة إليك. ما تبيعه لك الأغنية الكاظمية الساهرية مثلا هي فروسية في زمن لا مكان فيه للفرسان. فروسية وأخلاق نبلاء قرون وسطى وامرأة من طراز شهرزادي لا تراها في حبيبتك ولا ترى حبيبتك فيها ولا تريد ذلك أصلا أغنية تريدك أن تقول لحبيبتك جفّت على بابك الموصود أزمنتي وهي أمامك تشرب شاي نعناع وتشتكي لك من الاتش آر ومن أمها! أغنية تبيع لك حبيبتك قطاعي، تقدم لك تشكيلة واسعة من العيون والرموش والخدود والشعر والسيقان. ولا أغنية واحدة تحمل لك حبيبتك كاملة مكملة على بعضها. أغنية تحتفي بالجسد وتفصصه لك قطعة قطعة وأنت لا تعرف كيف تمسك يد حبيبتك في الشارع!
هكذا تجد حبيبتك نفسها محشورة بين أن تكون جسدا وحسب بكل فجاجة حضور الجسد ولا واقعيته، او تكون نموذجا مثاليا لإمرأة لا وجود لها بردو.
والنهاية ان الواحد لا يجد أغنية تسلّك له زوحليقة الحب دون أن تجزّئ حبيبته قِطَعا كالدبيحة، أو تجعله يتشحتف عليها ويناله من الهجر والخصام والدلال والغنج والتدله ما يناله. والواحد والله لا يبحث إلا عن اغنية عاطفية تشبهه، فيها تاسكات وديدلاينات واتش آر سخيف. أو اغنية تُظهر حبيبته على طبيعتها، ببنطلون جينز وتيشيرت صيفي وامتحانات ميدتيرم.
من منا لم يسأل نفسه يوما هذا السؤال؟
من منا يدعي أن له إجابة و كثيرون لا إجابة لهم.
سؤال سأله الشعراء كما علماء النفس و الإجتماع.
سؤال تجادل فيه الخطباء...
ماهو الحب؟
ما هي تلك الرعشة التي تجتاح الإنسان لما يرى حبيبه؟
ما هي تلك الدقات المتسارعة لقلب ينفطر لما يغيب المحبوب و يثلج لما يحضر؟
لما وصف الشعراء الحب لم يكونوا مبالغين... و أنا أشهد...
يا ليت الحب فقط فرحة، فهو كثيرا ما يكون حزنا و شقاء.
و حتى حزنه حلو و شقاؤه عذب كعذوبة ريق المحبوب لما يقبل الشفاه و لما تتعانق الألسنة.
الحب لما لا تغمض العيون إلا و آخر ما رأت وجه المحبوب، و لا ترتخي الأعضاء إلا و آخر ما حضنت جسم المحبوب.
الحب لما لا تهيج نار الجنس فينتصب القضيب و تقشعر الأجسام إلا لما يقول المحبوب كلمة "أحبك".
الحب لما تختار الموت ليعيش الحبيب، و تختار العيش فقط للحبيب.
لما تكون رجلا و تتمنى لو أنك أنثى حتى تحمل نطفة الحبيب فتكون جنينا ثم طفلا من صلبه فقط لأن طفله فيه شيء منه، لأن طفله يشبهه.
الحب ليس نزوة، الحب ليس كذبة، الحب هو لما لا تقدر أن تهجر من خان، و لا أن تعاتب من جرح. لأنه كلما جرح و خان، زاد التعلق به و التوسل إليه.
الحب هو أن تجعل الحبيب معبودا وحده لا شريك له في قلبك و أفكارك.
الحب إبتلاء، لا يدخل النار من اكتوى بناره في الدنيا.
الحب جهاد... جهاد بالنفس فهي لا تعرف راحة إلا مع المحبوب. و جهاد بالروح فهي لا تطمئن إلا بالقرب من المحبوب. و جهاد بالجسد فهو لا يطفئ ناره إلا قبلة المحبوب، جسم المحبوب، ريح المحبوب...
و أما من مات في الجهاد فشهيد.
شهيد كل من فارق عيناه النوم من كثر إشتياقه، و سالت دموعه تملأ كأس حرمانه.
شهيد كل من صبر على محبوب خائن كذاب منافق.
و ما أكثر الشهداء! و ما أكثر الخونة الكذابين!
لا أقدر أن أنسى ظلمه لي. كيف أنسى لما جرحني و قتلني مع كل مرة كان يخون و يكذب.
لا أقدر أن أسامح كذبه و خيانته. كيف أسامح من خاب به ظني و هجرني حتى حسبت روحي تهجرني.
لكني، بالرغم من هذا، أتعلق به يوما عن يوم كطفل يحتاج لأمه ترضعه. كشجرة تموت لولا الماء يسقيها. كنار تنطفئ لولا الخشب يلهبها.
أحبه بمبالغة و أكره حبي له. أكره ضعفي و خضوعي.
لكن، ما أن أسمع صوته، ما أن أراه. ما أن أفتح بسرعة أزرار قميصه، ما أن أذوق طعم ريقه و هو يقبل شفتي بنهم، ما أن أداعب حلماته، ما أن أحس بقضيبه يكاد يمزق ملابسه، ما أن يدخل يده في ملابسي الداخلية، ما أن يجثو على ركبتيه يبتلع ذكري، ما أن يقف أمامي و يفتح مؤخر��ه طالبا مني إيلاجه...
ما أن نصير رجلا واحدا، حتى أنسى... و أرجع لخضوعي، و أرجع لخنوعي. و أسامحه على الخيانة و أنا أعلم جيدا أنها فيه طبع لن يتغير...
و مع نسمات الصباح …
دعيني ..
بك أثور …
و احطم …
كل القيود …
حتى تمنحيني …
الانتماء …
برغبة منك …
حتى …
جنوني …
يزيد و يثور …
فما أجمل …
من جنون الجنون …
حينما …
تثرثر الشفاه …
حيث تشتهي …
و ترتحل بالجسد …
بلا حدود …
و تموج …
كموج البحر …
تلاطمه …
لزبد …
نتاج العراك الجميل …
يستقر سواحل جسدينا …
و من بعده …
الى الاحلام …
من جديد …
نتوه …
غريبٌة علاقُة الروح بالجسد. كأَّن عمرْيهما لا يكبران مًعا ولا يلتقيان في الشخص الواحد أحياًنا. ثَّمة عجائز تبقى أرواحهم طفلًة أو شاَّبة، وثَّمة من تشيخ مع شيخوختهم، كما أَّن هناك أطفالاً يبدون وكأَّن أرواحهم هرمٌة وعجوز!