samerserag
Untitled
4 posts
Don't wanna be here? Send us removal request.
samerserag · 4 years ago
Text
(4)
٢٠١٣
توقفت فترة عن الكتابة لأول مرة منذ بدايتي في تسجيل مقاطع من سيرة أسرتي وسيرتي..
أتشكك دوما في قدرتي على إكمال أي شيء بدأته، تفتر حماستي بعد وقت ليس بطويل وأحبو عائدا إلى أمان اللافعل.
اسأل نفس مرارا:
ماذا يدفعني إلى الكتابة؟
يردد الجميع بنبرة المختصين: حينما تتزاحم بداخلك المشاعر افرغ عقلك بالكتابة لتحصل على راحتك.
هراء.
لم تمنحني الكتابة سوى ألم التذكر.
هل أحاسب نفسي�� أم أحاكم الآخرين؟
أي ذنب أتبرأ منه وأي صفح أسعى إليه بعد كل ما مضى ؟
لا جدوى.
أدركت أني قد عشت طويلا أتظاهر بالشفاء وأمارس القوة، أقاوم الحنين بالكتمان وأواجه أفكاري بإجباري على النسيان، أشاغل نفسي عن آلامي وأهرب من المواجهة.
الكتابة فعل استسلام لمن أنهكته المقاومة.
سأكتب لأني مُنهك.
لِما نجاهد أنفسنا لنبدو أقوى مما نحن عليه؟
نحن ضعفاء. فلنعترف بضعفنا كي لا نعطي مبررا لمن يقسو علينا بأن يستمرَ في قسوته، حتى وإن كان بداخلنا..
إن كان هناك ثمة حقيقة في هذا العالم فهي الفناء ومنه يجيء الضعف..نحن هالكون، فقط استسلموا ولو إلى حين.
أنا أضعف مما أبدو وأقوى مما أظن.
لم أستشعر قوتي بعد، لكني أدركت ضعفي بعد أن شاهدتها، فاستسلمت للكتابة من جديد.
------------------------------
ظهر اسمها أسفل شاشة التلفاز عريضا: مريم زيدان، أستاذ العلوم السياسية..وخطأي الأكبر.
تجلس بثقة أمام شخص ملتحٍ ممن تمتليء بهم برامج الحوار يوميا، تعلو وجهه ابتسامة مصطنعة ونظرة إلى أسفل، وتتفحصه بعيونها البنية الواسعة. لم انتبه لسياق الحوار، لكني أدركت صعوبة موقف الضيف المواجه حين رأيت حاجباها السواداوان مرفوعان علامتها للهجوم الشرس، فيستوقفها المذيع ويعطي فرصة الرد للضيف. ابتسم عندما ألاحظ انها مازالت تعاني من مشكلة جفاف شفتيها بفعل الكلام الطويل فتبللها بطرف لسانها في حركة غير ملحوظة للجميع سوى من قبّل تلك الشفاه يوما، وعندما ينتهي خصمها، تمرر أصابعها الطويلة بين خصلات شعرها المحير بين البني والأشقر فيظهر وجهها الصغير ذو البشرة الذهبية بنعومة الطفولة التي تضيف إلى ملامحها جاذبية وصفاء. تبتسم حتى تظهر سنتها المعوجة فأشفق على من يحاورها مما يلي تلك الابتسامة. لم يوقفها غير استغاثته بفاصل طلبه من مذيع البرنامج لاستجماع الأفكار التي لن تنقذه.
مازلتِ جميلة يا مريم، لم تنل من طلتك السنون.
جميلة كما أنتِ وإن تمردتي على طول شعرك، جميلة بجرح أنف القديم وسنتك المعوجة، بشامة رقبتك المكتنزة وأذنيك الصغيرتين.
مازلت أراكِ جميلة يا مريم.
غربة طويلة، زواج فاشل، تربية ابنين وحيدة، ثم عودة آملة بتغيير في الأوضاع ولكنك يوما بعد يوم تتعرضين لهجوم يزداد من أنصار نظام جلف تعارضينه ولا تزدادين إلا شراسة في الحُجة والمواجهة.
كفاك قوة وضجيج !
تحملتي الكثير يا مريم، ولكنك لم تحتمليني.
لماذا يا مريم؟..
------------------------------
من الأسباب الرئيسية للقطيعة الكبرى بين أبي وعمي الأصغر "أسعد"، محاولات عمى المتكررة للتواصل مع أبناء عمومته غير الأشقاء من نسل جده "هلال". في البداية تحجج عمي برغبته في صون عضم التربة ولكنه لم يقاوم كثيرا حينما هاجمه أبي وواجهه برغبته الحقيقية في البحث عن أية صلة هشة تؤمن له نصيب من ميراث مزعوم وتحقق له مكسب سريع بدلا من عناء الاستمرار في أي عمل شريف وفره له أبي مراراً ليتمكن من الإنفاق على زوجته وبناته الثلاث.
لم يستمر عمي في عمل له قط. تزوج وعاش في بيت طفولته الذي بناه أبوه "الباشا" بعد أن غادره أشقاءه وتوفى جدي وجدتي، حتى اشتراه أبي مقابل قيمته العادلة من المال ثم منحه عليه شقة ملك بإحدى عماراته ليعيش فيها مع أسرته. لجأ عمي مرارا إلى أبي لاقتراض أموال لن يعيدها وساعده أبي مرارا بالمال والوظائف التي عرضها عليه ولكنه تقاعس عنها جميعا باستهتاره واعتماده على اسم أخيه "درويش الباشا" فأثار حنق الجميع تجاهه بما فيهم أبي، وحينما رفض إقراضه جاهر عمي بحقده عليه زاعما أنه استغل ضيق حاله وسرق منه بيت أبيه الذي كان سببا في ثراءه بعد أن وجد ما في باطن البيت من كنوز حسب زعم عمي.
"لو أبوك فاكر نفسه كبير، فأنا اللي عملته كبير."
غفر له أبي بعد توسط أخواته البنات ولكنه لم يتقبل شفاعة أحد حينما علم بفعلته الفاصلة.
سافر عمي إلى بلدة جده "هلال" وأعمامه المزعومين واستقصى حتى توصل إلى معقل تجارتهم وبيوتهم، استقبلوه بتوجس وعندما علموا من هو واستشعروا نواياه الحقيقية طردوه خارج وكالتهم غير مرحب به. جن جنون أبي حين علم بما فعله أخوه الأصغر واعتبر فعله إهانة لقدره واهدارا لكرامة والدهم في قبره فانهال عليه بالتوبيخ حتى تعالت أصواتهم فخرج عمي غاضبا إلى قطيعة بلا رجعة.
******************************
يتبع.
#على_هامش_سيرة_الباشا
3 notes · View notes
samerserag · 5 years ago
Text
(3)
طبيعة لم يشوبها إلا الانسان.
تشق الترعة استقامة الأرض فتفصل بين روحين على ضفتيها وتجمع في مائها الدواب جنبا إلى جنب مع أصحابها. يتلاليء الأخضر في الناحية الغربية من المياه، تمتد عليه ظلال أشجار النخيل الشاهقة فتملىء تيجانها السماء  مطلة كأنها تحمي أسفلها، وعلى الأرض تنبث الطيور بين طرحها فترعى ما تعالت عنه النخيل، تتوزع الطنابير فتجري المياه في المسام تروي ظمأ الزرع وتنقاد الدواب تحرث البذور وتساوي الطين.
في الشرق، تتراص سُكن الأهالي واطئة من الطمي الذي تحولت جدرانه إلى الأصفر بفعل خلطة الرمال والتبن تحت أسقف القش والعليق، تشق أغلبها نافذة ضيقة تشرف من الداخل على مساحة متوسطة يفترشها التراب والحصير. في القلب يستقر فرن الدار مقوس يغطيه سواد الحريق، في منتصفه صاج التسوية وأسفله "المحمَى" يشعل كيزان الدرة وقطفات القش.  في الخارج ينتصب زير الماء من الفخار المغطى بالنقوش وتستقر بجانبه دِكة من الطين والتبن تلتحم بالجدار للراحة والمسامرة في الطرقات الضيقة التى تتلوى بين البيوت وسط غبار يحمل رائحة الأشجار وعطونة الروث.
أحسن "عبد العزيز" معاملة "عوالي" بعد زواجه منها فلم يثقل عليها، انتقل إلى دارها الذي اقتصر عليهما وبناتها ومولودها بعد ان ترك ذكريه في داره مع أمه ترعاهما ويؤنسنها. انتظرها حتى أفاقت من نفاسها وصدمة الهروب ثم حدد أدوارها كزوجة بدءا بالفراش وحتى السوق وارتضى كلاهما ضمنيا بمقايضة الطاعة التي تقدمها له بالستر والحماية.
ورث "عبد العزيز" مهنة "طالع النخل" عن جده وأبيه الذي أخرجه من الكُتاب ليكسبه صنعة يساعده بها على عبء العيش ويقتات منها لاحقا، فلم يرُى منذ صغره إلا وهو يعتلي جذوع النخيل المنتشر في أنحاء البلدة مرتديا "المطلاع" مشدودا بحبل حول وسطه معلقا بأعلى النخلة فيتسلق جذعها بيديه وقدميه العاريتين صاعدا لأعلى حتى يقوم بالتلقيح وتقليم جريدها، وعند دخول الخري�� يطيب التمر فيصعد ليحصد بمنجله عراجين البلح في طبق كبير من الأجولة  يتدلي تحته.
من أعلى يظهر "عبد العزيز" كطائر على بساط مستدير يسكب بيديه حبات حمراء وصفراء، وعلى الأرض أكسبه العلو سلاما واتزانا جعلاه يتحلى بدرجات قصوى من الهدوء فبدا لا يعبأ بهموم البشر. لم يشكُ قلة الرزق في عمله الموسمي، فيحصل على أقل القليل كأجر يكون في كثير من الأحيان كيلة او اثنتين من البلح حسب الموسم يجمعهم في داره  لتذهب "عوالي" بالغلة إلى سوق البلح فتعرض الحياني والعامري والزغلول وغيرهم وتضيف ما تجنيه من مقابل متواضع إلى رصيد الدار في مواجهة رغبة استمرار الحياة.
رفضت "عوالي" بقطع شديد رغبة زوجها في ضم "الباشا" إلى أبناءه ليعاونه في العمل وينقل إليه مهنته، حتى انها ارتعبت من مجرد تصور ابنها يصعد إلى أعلى النخل فعرضت أن يصاحبها في رحلات السوق لبيع البلح في المواسم بجانب استمراره في الكُتاب يحفظ القرآن فيقرأ ويسمع.
كانت رحلة السوق من مباهج طفولة "الباشا"، بعد طاجن الأرز الدس الذي تعده أمه على نار الفرن الطيني، فتمضي به في يد وبالأخرى تحمل مشنة البلح فوق رأسها الصغير تنسدل على جانبيه طرحتها السمراء وتسير ثابتة متمهلة كجذع نخلة حتى تأخذ مكانها بالسوق وتبدأ في عرض بضاعتها فتُشرح أذنا "الباشا" بصوتها وهي تنادي:
يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح
والسماني طاب من تاني
وطلبت الأكيلة يا منور يا بلح
------------------------------
أحاطت "عوالي" ولدها بأسوار عالية من الحماية أرهقته في صغره وحرمته حريته في ممارسة حياة سنه فكبر داخل حدود داره دون صديق مقرب أو مغامرة طائشة، زاد من بُعد الناس عنه خوفهم من أمه إذ كانت لا تتهاون مطلقا مع من يسيء إلى ابنها بقول أو فعل مهما كان مقامه. لجأ "الباشا" إلى ما حوله من دواب يرعاها ويستأنس بها فنشأت بينه وبين الحيوان علاقة محبة وحنو خالصين كبرت مع الأيام، فلم يضرب حمارٍ قط ولم يطاوعه قلبه أن يعصب عينا ثور كما عاف أكل اللحم في كثير من الأحيان وتجنب رؤية الذبيح في كل الأحوال.
نُسجت خيوط تلك الغواية في طفولته حين كان يغافل أمه ويذهب إلى الحقل مع إخوته فيجلس فوق أريكة "النورج" الخشبية يجرها ثور أو اثنان تعلو عجلات دائرية حادة تمر فوق الأرض فتحرثها أو فوق القمح فتدرسه، أو يقف على "الزحّافة" المربوطة بعنق جملين يسحبناها لتسوية الأرض بعد الحرث فكان أشجع ممن هم في سنه للإقتراب من الدابة ومهاودتها بعطف ورحمة ��لانت الدواب له أكثر من غيره واستجابت له في هدوء ودعة.
زارت "بشرية" زوجة "سعد" خولي الباشا دار عوالي تشكو لها والحزن يغيم وجهها:
- النعجة عينيها ابيّضت، جالها "مرقص" ينشك في إيده وكواها، يومين وماتت عِشار، دلوقت علّتها صابت أختها والهم راكبني تحصلها.
= خليني أطل عليها يامّه.
- بالحق يا "باشا" تعرف تداويها؟
= أجرب..
صحبت "بشرية" من فورها "الباشا" إلى زريبتها خلف دارها، رأي نعجتها عمياء بيضاء العين مربوطة بحبل من رقبتها إلى حلقة بالجدار، فك رباطها ثم جلس واحتضن النعجة يربت على ظهرها برفق ويتلو هامساً:
"وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ".
طلب من زوجة الخولي إناء ماء وشريط قماش فأحضرت المطلوب، مد يده إلى داخل حقيبة الخيش في جانبه وأخرج كيسا صغيرا من الحناء أفرغ مقدارا محددا منه في الإناء وأخذ يقلبه حتى امتزج، مد يده بالخليط ودهن عين النعجة ثم ربط عليها بالقماش.
في اليوم الثاني مر "الباشا" على نعجة الخولي وكرر ما فعله في اليوم السابق، وفي اليوم الثالث وجد عينا النعجة حمراء فابتسم وقبّل مقدمة رأسها. في اليوم الرابع برأت النعجة تماما وأصبحت قادرة على الحركة بعين سليمة وعافية واضحة، وكانت مكافأة "الباشا" قِسط من الحليب وخمس بيضات قدمتها "بشرية" إلى أمه متهللة وداعية له بالصحة والفلاح.
------------------------------
- فرس "بكري" بيه ابن الباشا الكبير راقد له مدة ومعكنن عليه، تعرف تدوايه؟
استيقظ "الباشا" بيد أمه وصوتها: اصحى كلم عمك "سعد". نهض "الباشا" بنصف وعيه وما إن سمع كلمة (فرس) حتى استرد النصف الاخر مجيبا: أجرب..
ذهب "الباشا" إلى اسطبل سراي الباشا الكبير بصحبة "سعد" الخولي، فكثيرا ما لمح "بكري" ابن الباشا على فرسه الأثير البني تزين مقدمة رأسه غُرة حمراء وفوق ظهره سرج ذهبي مشدود على جانبيه أضاف إلى الفرس وراكبه بهاء وبريق. ما إن دخل الاسطبل حتى وجد الفرس راقدا على جانبه مادّا رقبته باللجام في تيبس وضعف، جلس "الباشا" على ركبتيه أمام الفرس المتألم وأخذ يربت بيده على رأسه وبطنه يفحصه ثم طلب اثنين من الخدم يساعداه على أن ينهض بالفرس واقفا على قوائمه، استقام الفرس بعد عناء واضح فأحتضن "الباشا" رأسه واقترب من أذنه هامسا:
- الغشيم شد عليك السرج حصرك، معلش هتروق وترمح.
أخرج من حقيبته سكينا صغيرة مسحها ثم اقترب إلى جانب الفرس، سمى الله وفصد العِرق فصهل الفرس عاليا منقبضا والدم ينز من جانبه، ثم التف نحو الجانب الأخر وشق العِرق بنفس الطريقة فانهمرت الدماء المحصورة، أمسك باللجام ومشى بالفرس جيئة وذهابا والدم ينزف من جانبيه وسط صمت الخولي وخدم السراي. بعد وقت قليل دهن "الباشا" جرح الفرس بمزيج من الثوم والخل والعسل الأبيض ثم غطاه بشاش من القطن وأوصى "سعد" الخولي بتكرار الدهان حتى يندمل الجرح ويشفى.
بعد خمسة أيام انهالت على "بكري" ابن الباشا المباركات وهو فوق فرسه البني ذو الغرة الحمراء أثناء مروره مختالا وسط أطيانه وفلاحيه.
------------------------------
يلف ظلام الليل الطرقات في ليلة بلا قمر فيمتد السواد بامتداد البصر يقطعه أنفاس "عوالي" المتلاحقة تجري والخوف يسيطر عليها، تسقط فيلتصق التراب بجلبابها وتنهض منهكة فتستكمل الجري حافية، يأتيها صوت "الباشا" صارخا بذعر :يـامّــــه، تدير بصرها بعيون مرعوبة في كل الجهات ولا تتمكن من تحديد جهة الصوت فتسقط على الأرض منهارة وهي تصرخ: يـا ضنايـــا.
تنتفض "عوالي" فجأة يدها على قلبها، أنفاسها متقطعة والعرق يلصق شعرها بجبهتها، يتحرك زوجها بجانبها ثم يستكمل نومه بقلق، تنهض من فورها لتطمئن على ولدها في نومه، تشد اللحاف على جسده وتمسح على وجهه ثم تذهب إلى مضجعها انتظاراً لنوم لن يعود.
بعد ساعات قليلة يقترب الصباح فتبدأ الحركة في أنحاء البلدة، تستيقظ "عوالي" وصغرى بناتها الباقية بعد رحيل الاخرتين مع أزواجهما وتبدأ في تحمية الفرن استعدادا للخبيز حتى تشرق الشمس. 
تدق عصا على باب الدار مبكرا في موعد لا تمر فيه امرأة أو رجل، تقترب من العارضة الخشبية للباب بتوجس وتسأل: - مين؟؟
يأتيها الصوت عاليا مجيبا:  - هلال.
 ******************************
يتبع
4 notes · View notes
samerserag · 5 years ago
Text
(2)
لم تفارقني ملامح  جدي بتضاريس وجهه الأبيض ولون عينيه الأخصر الموروث من أمه تعلو جبهته العريضة طاقيته العالية التي داوم على ارتدائها مع جلبابه الفلاحي الذي يستر جسده النحيل الطويل حتى بعد أن استوطن المدينة .
يذكر أبي مرارا باعتزاز أني أكثر الأحفاد شبهها بجدي، ومع تشككي في درجة هذا الشبه، الا أنني كنت متيقنا من أني أكثر الأحفاد قربا ومحبة لدى جدي رغم أنني لست أول أحفاده ولكن يرجع ذلك بالأساس لمكانة ومحبة أبي لديه  رغم أنه ليس أول أبناءه.
لم يجرؤ طفل بعائلتنا على أن يقطع خلوة جدي أثناء قراءته في مصحفه ، ولكني إذا ما وقفت بباب غرفته طفلا صغيرا يرغب في المشاكسة، يمسد بكفه الأرض جانبه في إشارة منه بأن "تعالى" فاقترب وأجلس فيضمني تحت إبطه مغمورا بالطمأنينة حتى ينتهى من ورده فيرفعني إلى ساقيه المضمومة على الأرض ويبادرني بكلمته المعهودة: "أهلاً وسهلاً". يتركني أخطف طاقيته وأجري ضاحكاً فينهض متصنعا اللحاق بي صائحا "يا ابن الكلب".
يخبرني أبي ضاحكا فيما بعد: "أبويا عمره ما شتمني إلا بسببك".
كنت دائما انتظر صوت الأذان في طفولتي ليس لشيء إلا لأن جدي لا تفوته صلاة جماعة في الجامع الكبير المقابل لمسكننا القديم، فأجري إلى شرفتنا متطلعا إلى جدي أثناء دخوله إلى الجامع، يشير لي باسما ويدخل لقضاء صلاته ثم يصعد ليجلس معي ويلاعبني ويسألني سؤاله المعتاد متحفزا: "عندكوا إيه في التلاجة؟" فأجري وافتح له باب الثلاجة فيبتسم في رضا قائلا: "جدع..زي جدك".
ترسخت تلك الحركة في ذهني كمثال لكرم الضيافة وتحية الزائر أيا كان وكررتها مرات في حضرة الكثيرين حتى عنفتني أمي: "اللي يسألك عندكوا إيه تقولوه كل حاجة وبس".
عندما جاوبته على سؤاله المعتاد في إحدى زيارته بـ"عندنا كل حاجة"، تلاشت ابتسامته ثم أومأ رأسه
عندها أدركت أني أخطأت الشخص المقصود بالإجابة فجريت إلى الثلاجة وفتحت بابها على وسعه صائحا:
"أنا جدع زي جدي" فضحك في رضا ولم تعنفني أمي بعد ذلك إطلاقا.
لم ينل جدي " الباشا " نصيبا من اسمه في حياته، ولكنه عاش مثالا حي للإنسانية والسخاء الذي عطّر سيرته أثناء حياته وما بعدها.
------------------------
في سنوات مراهقتي وشيخوخته لازمته كثيرا في رقدته وتكررت جلساتنا رغبة مني في سماع تفاصيل حياته أولا قبل أن تواتيني شجاعة الكتابة والتسجيل متأخرا.
حكى لي جدي كيف أن أمه ومنذ يومه الأول أصابها هوس حمايته والرغبة في إبعاده عن أي مصدر محتمل لأذى قد يصيبه حتى أصبحت محل تندر وسخرية جيرانها وخالاته.
حبست أمه نفسها في غرفتها مرتدية الملابس الداكنة لمدة أربعون يوما عملا بالإعتقاد السائد حينها أن " النَفَسَة قبرها مفتوح أربعين يوم "، أي أنها ورضيعها عرضة للهلاك مدة أربعون يوما أثناء نفاسها بعد الولادة، كذلك شددت على أختها أن تمنع عنها زيارة أي امرأءة بصحبة طفلها حتى لا تأخذ صحة مولودها.
بالغت أمه في تحصينه لدرجة أنها أجبرته على ارتداء ملابسه مقلوبة حتى سن الخامسة، حينها اضطر للخروج إلى الكُتاب فنهاها رجال الأسرة عن ذلك. 
حتى بعد أن وصل إلى سن تسمح له بالخروج ومخالطة أقرانه�� لم تتخل أمه عن حرصها الشديد على حمايته وخوفها عليه. يتذكر جدي بوجه تكسوه نظرة ساهمة وابتسامة هادئة تجعل ملامحه تفيض بالحنين ويحكي لي حينما انتهز فرصة غفوتها وخرج يلعب ويتبارى مع الأطفال في صعود الشجرة المواجهة لداره فيسقط صارخا ويلتوي كاحله أثر السقوط. 
عندما أفاقت أمه على صوت صراخه وأدركت ما حدث، حملت فأس الدار وانهالت على جذع الشجرة مرارا بقوة وغضب حتى قطعته في النهاية وسط تعجب الجيران لدرجة أنهم أطلقوا على ابنها "أبو اللمس"، وفي المساء، احتضنته أمه تدلك قدمه المتألمة وهي تنشد له هامسة بصوتها العذب:
لما كملت أيامها
ولدت ولد هو أملها
زعلت وغارت حُسادها
 لما قالولي ده ولد
انشد ضهري واتسند
لما عرفت انه غلام
انشد ضهري واستقام
لم تنقص محبة جدي وولعه بأمه حتى أيامه الأخيرة، فداوم على وصف ضفائر شعرها الذهبية وعينينها الخضراء وبشرتها البيضاء اللامعة بحمرتها تحت جلبابها الأسمر، ابتسامة ثغرها بأسنانها البيضاء "رباني"، تزين ذقنها وشم دقيق أخضر، كما مدح حلاوة صوتها ونبرته في تلاوتها للأناشيد وأغاني القرى التي علقت بعضها بذهن جدي حين كانت تلقيها على أسماعه صغيرا مستكينا في حِجرها.
لم تتوافر صورة لأمه نظرا لعدم انتشار الفوتوغرافيا في زمانها ولكنه جاء نسخة تشبهها في معظم تفاصيلها كما يذكرها حتى تحول حب أمه للغناء إلى ولعه هو بالمدح والابتهالات.
 بعد مرور أربعين النفاس، اجتمع رجال الأسرة وقرروا تزوجيها من ابن عم لها ماتت زوجته بحمى النفاس بعد ولادتها الثانية تاركة له ذكرين، وذلك بعد أن استفتوا شيخ القرية في غياب الزوج وعدم عودته منذ أن "طفش" فأفتاهم بمشروعية الزواج صونا لعرض المراءة وجلبا لمصلحتها وأطفالها الأربعة ولكن بعد أن أبطل عقد زواجها الأول من الأب الهارب.
لم يخبرني جدي بذلك ولم أجرؤ على سؤاله مرة أخرى عن أي شيء يتماس مع ذكرى أبيه بعد واقعة سؤالي لأول وأخر مرة عنه أثناء استرساله في الحديث عن أمه، فتقلصت ملامح وجهه بغضب وتحول الحب في عينيه إلى نقمة وانكسار ثم صمت لم يبدده سوى تدخل جدتي حينها: "سيب جدك يرتاح".
لم يغفل أن يذكر لي في جلسات متعددة ذكراه عن سرايا الباشا  وما مثلته لأهل القرية من معقل للسيادة والثراء رغم أنه لم ير تلك السرايا منذ أن هجر قريته في شبابه وحتى وفاته.
بعد سنوات طويلة ستصبح جلستي في تلك السرايا المتهالكة مهربا من فيضان أفكاري وتهدئة لاضطراب نفسي، وفي كل مرة أرى فيها اللافتة الرخامية التي تحمل اسم " سراي الباشا " أتذكر إصرار والدي على تركيبها ظاهرة للعيان عند مدخل السراي بعد أن أصبحت ضمن أملاكه الواسعة، فأترحم على جدي وأبي وأقرأ لهما الفاتحة.
 توقفت كثيرا عند صمت جدي والكراهية التي غيمت عينيه عند سؤالي عن أبيه، وتوقعت أن الأمر قد يتجاوز هروب الأب عند ولادته. ما قصّته علىّ عمتي بعد وفاته بسنوات وعند تكراري لنفس السؤال أكّد حدسي وجعلني أدرك السبب الحقيقي لذلك الجرح العميق الذي ترك ندوبه متراكمة في نفس جدي بعد أن ظلت ذاكرته دون صورة حية لأبيه حتى شبابه، فلم يتكمن من أن يغفر له فيما تبقى من حياته وحتى فارقها، وكذلك أنا.
******************************
يتبع
3 notes · View notes
samerserag · 5 years ago
Text
على هامش سيرة الباشا
الجــــــــذر
(1)
 كان لها أن تكون ليلة مباركة ولكنها تحولت إلى مزيج من البشارة والأسى. 
في ظهيرة النصف من شعبان يطل "الباشا" ببذته البيضاء وطربوشه الأحمر، يقف ببطنه الممتلئة وبشرته الوردية أعلى شرفة قصره الريفي يمناه تمسك رأس عصاه الزان ويسراه ترتفع بكسل تحيي الجموع الشاكرة في حديقته المترامية. 
على الأرض، يقف أهالي القرية حفاة في صف طويل يتجاوز بواب�� القصر ملطخين بالفقر والطين أمام خولي الباشا في انتظار هبة النصف ريال الموسمية. 
تقدمت "عوالي" متأوهة ترتدي جلباب أسود بسفرة حتى الثلث الأول من الطابور تعلو كتفها طفلتها يكسوها المخاط والذباب وتجر في يدها الثانية وتمسك بطرف جلبابها المشقوق من منتصفه ثالثة أكبر سنا ويرقد في بطنها أخرى..أو أخر.
 تقصلت ملامح وجهها فأنزلت طفلتها على الأرض بجوار أختيها وواصلت المشي ببطء وأنفاس متقطعة حتى وصلت إلى طاولة الخولي.
 - فين جوزك يا عوالي؟ 
- في الأرض 
- وانتي فاضلك أد ايه؟ 
- خالتي سعدية قالت هانت...ادعيلي يا عم الحاج. 
- يعينك ربنا يا هلال. 
قبضت على نصف ريالها وما إن التفت حتى انهمر مائها وسقطت صارخة. تجمع حولها أعين الفضوليين من الرجال والمحيطين النسوة تتقدمهم "سعدية" الداية. 
-  ميه سخنة بسرعة يا خلق.
انتصب الباشا محدقا من علٍ يترقب حتى اقترب الخولي من أسفل الشرفة.
-  عوالي مرات هلال باينها بتولد يا سعادة الباشا 
....
- دخلها.
ظل الخولي لحظات كمن لم يسمع حتى كرر عليه الباشا الأمر فوجه الخولي النسوة لحملها والدخول بها إلى السرايا..سرايا الباشا.
 ********************
ورث الباشا اللقب بعد أبيه بالإضافة إلى معظم أراضي زمام البلدة التي يعمل بها الأهالي وأسرهم مقابل قوتهم، فيزرع الرجال منذ بزوغ الفجر وحتى غروب الشمس، تنضم إليهم في المواسم زوجاتهم وأطفالهم يساعدوا في جمع المحاصيل وتهيئة الأرض. عاش الجميع في كفاح مستمر من أجل الحفاظ على الحياة بأقل من القوت الضروري، فالخبز أساس الطعام والغموس حسب الموسم واللحم في الأعياد أو عند فوز الباشا بانتخابات مجلس الأمة.
حملت النسوة "عوالي" وما إن عبرن بوابة السراي حتى تجمدت نظراتهن وتوقفت أنفاسهن. كانت المرة الأولى التي تلمس فيها أقدامهن رخام أرض السراي وترطب برودتها جفاف أقدامهن التي اعتادت طين الأرض، لم يروا من قبل تلك الأعمدة المرتفعة والسلالم المفروشة بالسجاد بعد أن اعتادوا درجات التراب في بيوتهن، كما أضفت تلك التماثيل البرونزية رهبة جعلتهن يغضوا من أبصارهن حينما ظهر فجأة "بكري" ابن الباشا الأكبر طفلاً لم يتمم العاشرة من عمره ولكنه بعد سنوات تضيف إلى عمره أضعافا سيتجاوز صيت اسمه اسم والده في بر مصر كله.
أفقن النسوة على صوت الخادم ينهرن ويحثهن على الإسراع بالنزول إلى البدروم بعد أن لطخت أقدامهن العارية بياض أرضية السراي. جاءت خادمة أخرى بوعاء كبير من الماء الساخن تلقته "سعدية" الداية وبدأت في مزاولة مهنتها المتوارثة أما عن جدة، اجتمعت النسوة وبنات "عوالي" خارج غرفة مبيت الخادمات يسمعن صرخاتها بذعر وترقب.
 تفصد العرق على جبين عوالي الأبيض حتى ابتل منديل رأسها وانحدرت نقاطه على حاجبيها الكثيفين حتى بللت شامة رقبتها وامتزج أخضرعيناها بالأحمر اثر الدفع وضغط أسنانها المفلوجة.
ما إن انطلقت صرخة الطفل الأولى حتى شهقت "عوالي" بنفس طويل وجسد مبلل وعين تنظر إلى جسد ضئيل أحمر في يد الداية حتى رأت ما تبحث عنه فأرجعت رأسها إلى الوراء وأسلمت نفسها إلى السكينة والظلام.
 ********************
 اقترب النهار من عصره وزينت أشعة الشمس السماء فوق الأراضى الخضراء الممتدة إلى ما بعد البصر وتناثر الفلاحين في الأرض منحنيين بسراويلهم الواسعة المشدودة بـ"تكة" حول وسطهم وصدرياتهم التي تعلو ملابسهم الصوفية بعضهم يضرب بفأسه والأخر يقطع بمنجله وعند الراحة يذهبون إلى "زِرب" البوص في طرف الأرض لالتقاط الأنفاس وتناول لقيمات.
بداخله افترش "هلال" الأرض بجلبابه البني الذي اختلط لونه بطين الأرض، جسد هزيل أسمر مضطجعا على ظهره فتبرز عظام صدره ويعلو شخيره، يقف أحدهم على مدخل الزِرب صائحا به.
- هلال، واد يا هلال انت نايم ومرتك بتولد حدى سراية الباشا يا بجم.  
يفت�� "هلال" جفنيه ببطء وينظر إلى مصدر الصوت دون أي حراك.
- قوم يا خم النوم، مرتك جابت بت.
يزوغ "هلال" ببصره ناظرا إلى الأمام  ثم يتحرك ببطء جالساً، ينظر حوله ببلاهة ثم يقف ممسكا بجلبابه ويخرج من باب الزِرب، يسير متثاقلا إلى عمق الأرض.
- على فين يا متوول؟ السرايا مش النواحي دي.
لا يلتفت خلفه، يهوي بقدميه على الأرض فتنغمس داخل طينها فيتقتلعها ويستكمل مسيره بخطوات واسعة وأنفاس تعلو في الاتجاه المعاكس حتى تغمره شمس لن تشرق عليه يوماً أخر في تلك البلدة.
 ******************************
 مارس 2013
 قبل ما يقرب من تسعين عاما وُلد جدي في شهر مثل هذا، حمل مولده نصرة الذكر الأول وخذلان الأب الهارب.
سُمي بـ"الباشا" تيمنا وتسجيلاً لذكرى مولده داخل سرايا باشا لن تطأها قدماه مرة أخرى وتسامحا من باشا البلدة الحقيقي مادام في الأمر تأكيدا على نقاء سيرته وونساً لأهالي لن يتعدى الاسم بحوزتهم اثر ما تثيره حروفه الأربعة من ذكرى تحمل بداخلها الفرحة والألم.
تعمدت "سعدية" الداية ان تعلن نوع المولود كبنت اتقاءا للحسد وعيون الكارهين، فتداولت البشارة من فم لأخر حتى وصلت إلى مضجع "هلال".
جاء المولود ذكر بعد ثلاثة بطون من الإناث زادت ثقل المعيشة على الأب وهم الانتظار على الأم. ولد جدي موصوما بالفقد الذي ستلازم مرارته نسله من بعده.
يتبع.
4 notes · View notes