Don't wanna be here? Send us removal request.
Text
عاين عاين يا عجيمان
— كيف رقصي يا "عجيمان"؟
سألت "سلمى" ابن جيرانها "الأبكم" الذي لن يستطيع الرد عليها، لخجل العاشق المحب، ثم لعدم قدرته على الكلام منذ ولادته، وإن رد، سيكون رده المعتاد بلسانه الملوي:
— أباه آه آباه !!
سلمى تعلم كم يعشقها "عجيمان"، او كما يحلوا لها أن تناديه، منذ سنوات وهو يقوم بخدمة والدها الذي لم يرزقه الله بالذكور، يساعده في كافة أعمال الحقل والمنزل، فهو البستاني والسقاء والراعي، وهو الحاضر دائماً لأي مهمة اخرى قد تطلب منه، مهما صعبت.
كانت أجرته الي��مية لا تتعدى بضعة قروش، و على الرغم من صعوبة ومشقة ما يقوم به من أعمال، إلا انه لم يشتكي يوماً العمل الشاق أو تدني الأجر الذي يحصل عليه، طالما سيجعله ذلك العمل دائم القرب من "سلمى".
"سلمى" الصبية اليافعة ذات الجمال الصارخ، صاحبة الغنج والدلال، وسالبة قلوب شبان القرية، تعرف جيداً انها فاتنة، وتحب كثيراً التباهي بفتنتها وجمالها.
كانت تتعمد ان تفعل ذلك في الاوقات التي يكون جارها الأبكم قائما على خدمتهم في البيت. فكانت تحضر زينتها ومجوهراتها الفضية كاملة، وتضع زمامها، وتزين شعرها بالمحاف، وجيدها بالدقة والطيار ذلك العقد الطويل الذي يمتد إلى أسفل البطن، ثم تزين معاصمها بالمِسَك، وأعالي زنودها بالأوضاح، وأقدامها بالحجول والخلاخيل.
تتعطر سلمى بعدها وتخرج بكامل زينتها وأناقتها الى باحة المنزل المطلة على ردائم الفل، والتي يكون ابن جيرانها الأبكم بالعادة قائما للعناية بها في هذا الوقت من اليوم.
تناديه بغنج ودلال :
— كيف رقصي يا "عجيمان"؟
ثم تبدأ بالرقص وهي تنشد بصوتها العذب:
— 🎶 عاين عاين .. يا عجيمان 🎶
🎶 عاين عاين .. لا تعَلِم. 🎶
يبهت المسكين، تتسمر عيناه، تحبس انفاسه، تتسارع دقات قلبه، تتندى قطرات العرق من جبينه، و هي تواصل الرقص والغناء، يمتزج غنائها الساحر بصوت حليها ومجوهراتها وضربات اقدامها على الارض.
ذات مساء..
بعد رقصة طويلة خلعت منه الفؤاد، انطلق الى منزله موجوعاً مكسور القلب، حاول أن يخبر أمه عن ابنة الجيران، عن جمالها، عن فتنتها، عن محاف الشعر، عن جمال نحرها، وقلائدها، عن بهجة الاوضاح وفتنة الخلخال بأقدامها، لكنه وهو الابكم الذي لا يُبين قولاً، لم يكن يجيد سوى الإشارات، فكان يضع يديه على مكان المحاف من رأسه ويصيح "آآآه" ثم يتذكر الدقة المعلقة على صدرها فيشير الى صدره صائحاً “آآآه أباه "، ثم يشير إلى كفه، ساعده، قدمه، وهو يصيح "أباه، آآه، آه" محاولاً وصف كل زينة سكنت جسد سلمى.
خرجت أمه ليلتها باكية، لم تتحمل رؤية المعاناة تقتل ابنها بصمت، كم حاولت من قبل التخفيف عنه ببعض المستحضرات الشعبية، لكن حالته كانت في ازدياد، خرجت الليلة متجهة الى بيت خاله وقد قررت أن تجرب آخر الحلول.
قبيل الفجر بقليل حضر خاله حسن ومعه بعض رجالات القرية، كانت امه تتمتم لخاله بكلمات لم يسمعها، ذلف الرجال داخل غرفته وهو ينظر إليهم في ريبة، وقف أحدهم على راسه والثاني عند قدماه، ثم قاموا بتثبيت يديه ورجليه وهو يحاول الملاص منهم ويصيح مستغيثاً بخاله وأمه.
احضرت أمه "المركب" الفخاري، الذي كانت قد جهزته باكراً، تشع من داخله قطع كبيرة حمراء من الجمر المشتعل، ثم وضع خاله مقصاً داخل الجمر حتى تلون رأسه بلون الجمر الاحمر، و سأل أمه:
— فين محل الألم اللي تاعب ابنك؟
فأخبرته باكية وهي تحاول الاشاحة بوجهها:
— يشكي مسكين ويأشر على راسه وصدره واياديه ورجوله.
كانت جارته سلمى تكنس باحة منزلهم صباحاً، حين سمعت صيحات جارها الأبكم تشق سكون الحارة.
ستعلم سلمى لاحقاً انهم تآمروا عليه، وقاموا بكيّه في اجزاء متفرقة من رأسه وأطرافه و جسده، ظناً منهم ان به مرض عضال.
و سيحاول هو الاختفاء عنها لأطول فترة ممكنة، محاولا تطبيب الجراح الموجعة ..
فالزمن كفيل بتطبيب جميع الجراح ..
إلا جرح سلمى! ..
سيبقى جرحاً غائراً في القلب، لا يندمل.
-----
جبران زكري
0 notes
Text
إذا قررت الجري يوماً، فاصدمت بالجدار
أو فكرت في الطيران إليهم، فاصطدمت بالسقف
أو حاولت السباحة نحوهم، فتحول البحر إلي كتلة من الثلج
عندها فقط
انتعل إحساسك بالإحباط، وارحل عنهم بلا صوت
...............
وحين تكتشف
أن الزمان ليس زمانك
وأن المكان ليس مكانك
وأن الأحساس ليس إحساسك
وأن الأشياء حولك لم تعد تشبهك
وأن مدن أحلامك ما عادت تتسع لك
عندها لا تتردد وارحل عنهم بلا صوت
...................
وعند الرحيل
لا تضيع وقتك في البحث في أحشاء اللغة لانتقاء كلمات الحب أو الأعتذار أو الوداع
فكل الكلمات التي تولد لحظة الفراق، إنما هي محاولات فاشلة لتبرير و تفسير هروبك وضعفك
..................
وعند الرحيل أيضاً
يغلق البعض في وجهك كل أبواب الرحيل كي يمنعك من الرحيل، لأنه يحبك
والبعض يعترف لك بحبه عند الرحيل، كي يبقيك معه
ويكتشف البعض الآخر أنه يحبك بعد الرحيل، فيحترق و يحرقك باكتشافه المتأخر
.................
وحين تقرر الرحيل
لا تدفن رأسك في الرمال كالنعامة، كي لا تلمح وجوه أولئك الذين أحبوك بصدق وراهنوا علي بقائك معهم، فخذلتهم برحيلك
ولا تبكي بصوت مرتفع كالأطفال، كي يصل صوتك لأولئك الذين أحببتهم بالصدق ذاته، فخذلوك
واترك المساحات خلفك بيضاء و شاسعة لهؤلاء و هؤلاء
كي يمارس كل منهم طقوس حنينه اليك بطريقته الخاصة
...................
وتأكد
مهما كان لون أو شكل أو حجم صمتك عند الرحيل
فلرحيلك صوت قد تسمعه كل الكائنات
لكنه لن يؤلم أبداً، ولن يصل إلا لأولئك الذين يشكل لهم وجودك شيئاً من الوجود.
0 notes
Text
الوقت لا يمر
في البداية، أود أن أحدثكم، عن الذي كانته زوبيد، يا لها من فتاة جميلة، فريدة. إلا أني في اللحظة التي أحدثكم بها، لا أعرف من أين أبدأ. لم أعد أذكر، كيف كلمت زوبيد لأول مرة، ولا الذي قالته لي. أذكر فقط اليوم الذي رأيتها فيه، في الساحة الصغيرة، فوق شارع روستي. الآن، كل شيء تغير، لم يعد الشارع، حيث كنت أسكن، كما كان، جددت البنايات القديمة، وتم إجلاء سكانها من أجل أن تباع الشقق إلى ألمان وانكليز. توجد الآن محلات جديدة، تبيع أشياء غريبة، كالسجاد الفارسي، الدانتيل النورماندي، البخور، الشمع المعطر. كل شيء تغير، السلالم حيث كان الأطفال يلعبون مثيرين صرخاتهم الحادة، الساحات حيث كانت تجفف الملاءات. ربما لأن زوبيد لم تعد هنا. اختفت، ليس فقط من الحاضر، ولكن أيضا من الماضي، كما لو أنها محيت، كما لو أنها رميت من فوق جرف أحدث ثقبا في السماء، من فوق بناء في الزرقة اللاهبة، لتختفي. هكذا مثلما تختفي الطيور-التي نادرا ما نجدها ميتة في الشوا��ع.
زوبيد كان الاسم الذي كنت أناديها به. كان اسمها الحقيقي زبيدة. اسمي دافيد، ولمداعبتي، كانت تسميني داود. وعلى هذا النحو، أطلقت عليها هذا الاسم: زوبيد. كان الأمر لعبة بيني وبينها.
لم أعرف جيدا من أين أتت. أخفت أثارها، منذ البداية. كانت غامضة في كل شيء. رأيتها، للمرة الأولى، في الساحة الصغيرة، حيث كان يجتمع الأولاد، بعد خروجهم من المدرسة، من أجل لعب الكرة، أو من أجل الشجار. عبرت دون أن تنظر إلى أحد، ثم اختفت في الشوارع المعتمة. لم أعد أذكر جيدا، كيف كانت تلبس، لأن التذكار الوحيد الذي احفظه من ورائها، هو تلك الصورة، التي قدمتها لي، في أحد الأيام، حين بدأنا نلتقي. صورة مدرسية، حيث كانت تجلس في الصف الأول. في هذه الصورة، أجدها جميلة جدا، غريبة جدا. لمعان ما، كان يكمن فيها، في نظرتها الداكنة، في أعماق عينيها. بالرغم من ذلك، كانت ترتدي ملابس أطفال فقراء، كبيرة وقديمة. تنورة بيضاء بكشكش غريب تحت الركبتين، وتنورة داخلية لغجرية. وقميص فتى بأكمام مرفوعة كي تناسب قياسها، وجوارب طويلة غير جميلة من الصوف الأسود، وحذاء، لا يبدو كصندل فتاة صغيرة، وإنما كسكربينة كبيرة، قطع جلدها ممزقة.
لا أعرف كم مرة نظرت إلى هذه الصورة، كي أفهم، كان يخيل لي أن هناك قصة سرية مكتوبة على هذه الوجوه، قصة سأستطيع قراءتها فيما بعد. ذات يوم، حملت لي الصورة، حين أردنا الذهاب للتنزه في الحدائق العامة، عددت لي كل أسماء الأولاد والفتيات الذين كانوا معها في الصورة، لائحة، حفظتها عن ظهر قلب. " مارتين إيلاند، سيسيل سابيا، ماري أنطوانيت ليو، رئيسة لعبي، آلان باجه، صوفي جيراردي، ماريس أوبرنه، ناديا كوهن، بيير بارنو، فضيلة....." أذكر العديد من هذه الأسماء، حين تعددهم، كنت استمع إلى صوتها بانتباه شديد، كأنه الشيء الأهم في هذا العالم.
حين كنت أنظر إلى الصورة، كنت أحدق بوجهها باهتمام، الوجه الذي كان لها في ذاك العمر. القوس الكامل لحاجبيها، وكأنهما مرسومان بالفحم، عيناها الداكنتان، العميقتان، المتألقتان، ضفيرتها السوداء التي يتشبث الضوء بها. حين عرفتها، كان لها ضفيرة كثيفة وحيدة، تصل إلى خاصرتها. لم تظهر أبدا بشعر محلول، كنت أتخيل هذا الشعر الأسود كمطر ينهمر على كتفيها وظهرها. في الصورة، كانت تجلس في الصف الأول، تلم تنورتها بين ركبتيها كالغجريات، نظرتها متجهة، مباشرة، نحو آلة التصوير، دون خجل، ودون غنج. ربما كانت تنظر من أجل أن تدافع عن نفسها، من أجل أن تتقي المصائد. في تلك الأيام، حين عرفتها في الساحة الصغيرة، خلف منزلنا، لم تكن أبدا تضع نظارات سوداء.
هذه النظرة، هي التي لا أستطيع نسيانها. كانت تجلس في الصورة بشكل سوي، اليدان على ركبتيها، الكتفان عريضان، ال��جه مشدود إلى الخلف، بثقل ضفيرتها. جبهتها ملساء، مخططة بأقواس حاجبيها، وفي نظرتها، يلمع الألق الخاطف لحياتها. كانت تنظر من الصورة، يخيل إلي، بأن وجهها، كان الوجه الوحيد الذي ينظر إلى المجهول. كنت أحاول، في كثير من الأحيان، أن أتخيل مكانتها عند الآخرين، عند مارتين وصوفي، ماريس أوبرنه، ناديا كوهن، أو عند فتيان صفها، بيير بارنو، بوجهه الخجول الأشقر، أو ألن ذي التكشيرة الصغيرة. كيف استطاعت أن تعيش معهم دون أن يروها؟ في أحد الأيام، حين كنت عندها، في الأيام الأخيرة، كلمتني، للمرة الأولى و الأخيرة، عن الثانوية الفرنسية، عن الأساتذة، عن المسافة التي تسيرها على الأقدام، في الفجر، كي تأتي من أطراف المدينة الفقيرة، وفي المساء، من أجل العودة. قالت بأنها بلا أصدقاء، بأنها لا تكلم أحدا، بأنها تعتقد بأنها غير مرئية. إلا أني حين انظر إلى وجهها في الصورة، لا أرى أحدا سواها.
في البداية، كنت كأني ألعب مع زوبيد الطميمة. ربما كان ذلك، بسبب الفقر الذي عاشت فيه، كل طفولتها، أو لأنها لم تكن تريد معرفة أي شيء عني، أو معرفة أحد. عدة مرات شاهدتها تعبر وتختفي في الشوارع الضيقة. ذات مساء، بعد المدرسة، تبعتها، كي أعرف عنوانها، سرها. لم تكن المرة الأولى، التي اتبع فيها شخصا ما، في الشوارع. حتى أني أستطيع القول، بأني كنت قويا، بما فيه الكفاية، في هذا الرياضة. كنت قد تبعت، على هذا النحو، عدة مشبوهين، و فتيات، لم يلاحظوا ذلك. لكن مع زوبيد، كان الأمر مغامرة حقيقية، مغامرة جرتني عبر كل المدينة.
أذكر تلك المطاردة التي كانت تبدو كما لو أنها لن تنتهي، الساحات التي كانت تعبرها. ذهبنا أبعد من محطة القطار، في الأحياء التي لا أعرفها. كان هناك، أضواء تلمع، مقاه، فنادق، أناس متربصون، مومسات بعيون تعبة. كان أمامي، دائما، خيال زوبيد، التي تسير مسرعة، في طريق لا يحيد، بتنورتها الزرقاء، بسترتها، وبجديلتها الطويلة السوداء، المتأرجحة على ظهرها.
إلى أن وصلت إلى ذاك البناء العادي، المواجه للخط الحديدي، باسمه الغريب المكتوب في أعلى البوابة، بأحرف مطبوعة على الجبس: الأيام السعيدةhappy days. بعد أن دخلت، دخلت إلى مدخل البناء، وقرأت بسرعة الأسماء المكتوبة على العلب البريدية، التي لا أزال أذكرها، كأسماء سحرية مكتوبة على ورق مقوى، ملصق على العلب. بلقيس، سافي، سوفيغو، إسكانزي، أندريه، دلفان. في آخر الصف، كتابة بخط جميل، على ورق مدرسي ملصق على العلبة، هذا الاسم الذي صار بالنسبة لي، الاسم الأكثر أهمية في العالم، الأكثر جمالا، الاسم الذي أعتقد أني كنت أسمعه دائما: القنطرة. بعد ذلك، تجرأت أن أصعد عدة درجات، درجات غريبة من الأردواز، مهترئة في الوسط مما يجعلكم تفقدون التوازن، حين تصعدون عليها. أنصت إلى الصخب الذي كان يدوي في قفص السلم، أصوات، ��رخات أطفال، تذمر الحيوانات من أجهزة التلفزيون.
في ذلك المكان، كانت تسكن زوبيد مع أمها، عرفت ذلك فيما بعد. تعيشان وحدهما، أمها لا تخرج أبدا، لأنها لم تكن تتكلم إلا العربية. تبعت زبيدة إلى البناية، عدة مرات، بعد ذلك، كنت أعود، بقلب يخفق، وبوجه منفعل، كمن يرتكب خيانة- ربما كان ذلك حقا خيانة. ذات مساء، في بداية الصيف، بعد انتهاء الدراسة، جاءت زوبيد نحوي. أذكر ذلك جيدا، كان ذلك بجانب جدار حجري عال يحاذي سكة الحديد، لم يكن هناك مخرج للهرب. جاءت نحوي، لا أذكر جيدا ماذا قالت لي، لكن كنت أشعر بحرقة الشمس على أعلى الجدار الذي ارتفعت حرارته طوال النهار، وبعيون زوبيد التي تنظر إلي بغضب. قالت شيئا مثل:
" لماذا تتبعني دائما؟"
لم يكن لدي رغبة للإنكار.
" ربما تظن أني لم أرك خلفي كالكلب؟"
حدقت في للحظة، بعد ذلك هزت الكتفين وذهبت. أما أنا فبقيت ملتصقا بالجدار، ظاناً بأني سأقع، كنت أشعر بفراغ ما في أعماق نفسي. مع ذلك، بعد هذا اللقاء، أصبحنا أصدقاء. لا أفهم لماذا تغير كل شيء. ربما في الواقع، الحديث عني ككلب جعلها تضحك. بكل بساطة، ذات يوم، جاءت إلى الساحة، و دعتني للتنزه. سرنا في الحدائق المهجورة. كان ذلك صباحا، وكان الإسفلت يذوب تحت حرارة الشمس، جاءت مرتدية تنورة فاتحة، وقميصا أبيض بأكمام مرفوعة، كالصورة. من ياقة القميص المفتوحة، رأيت سمرة بشرتها، الشكل المنساب لثدييها، عري ساقيها، صندل قدميها العاريتين. مشينا بأيد متشابكة. حين أطلعتني على الصورة سعدت بذلك. لأنها كانت جديدة في ذلك الوقت، خيل إلي، وأنا أغلق عيني، وأستمع إلى صوتها، وأشم رائحتها، بأني كنت معها في تلك المدرسة، مع الآخرين. كما لو أني عرفتها منذ زمن طويل.
حقا، كان الوقت صيفا، حتى الليل كان حارا. حين استيقظ، أمضي مباشرة خارج المنزل، كان أبي وأمي يتهكمان علي، ربما شكا بشيء ما، إلا أنهما لم يعرفا أي شيء. كانا يتخيلان ملاطفة وحبا مع فتاة ما، فتاة من الحي، ابنة الجيران في الطابق الأسفل، ماري جو، الفتاة الشاحبة جدا، ذات الشعر الجميل الأشقر.
كنا نتقابل كل يوم. نغادر معا، تقودنا مصادفة الشوارع، نحو البحر، أو نحو التلال، كي نهرب من ضجة السيارات. نبقى جالسين تحت الصنوبر- منذ العاشرة صباحا، حيث يكون الجو حارا، لدرجة أن قميصي يلتصق بظهري - ننظر إلى المدينة البيضاء، الغامضة. أذكر رائحة زوبيد، لم أشم أبدا رائحة مثلها، لاذعة، عنيفة، رائحة أزعجتني، في البداية، لكن فيما بعد، أحببتها، بحيث أنني لم أعد أستطيع نسيانها. رائحة تريد أن تقول شيئا عفويا أصيلا، رغبة، شيئا يجعل قلبي يضطرب. كان عمري ستة عشر عاما، في ذلك الشهر، في حزيران، وبالرغم من أنها كانت تكبرني فقط بعامين، كنت أشعر بأني لا أعرف شيئا، بأني لست سوى طفل. كانت هي التي تقرر كل شيء، متى تراني، أين نذهب، ما الذي سنفعله ونقوله. كانت تعرف أين ستذهب. حرارة الصيف، الشوارع، الصنوبر تحت الشمس، كلها أشياء ثقيلة تسكر، وتجعل الذاكرة تضيع. في أحد الأيام، قلت لها:
" لماذا تريدين أن تريني؟ ماذا تريدين؟"
" هكذا، للاشيء. لأنه لدي الرغبة في ذلك."
نظرت إلي بسخرية. لم أكن أعرف الشيء الذي أريده منها. بكل بساطة، أريد أن أنظر في وجهها، في عينيها الداكنتين، أن ألمس بشرتها، أن أمسك جسدها ذو الملابس البيضاء، أن أشم رائحتها.
كنا نذهب أحيانا للسباحة، في الصباح الباكر، أو في المساء، عندما يخلو الشاطئ من رواده. كانت زوبيد ترتدي تحت ثيابها، مايوه أسود صغير. تدخل إلى الماء مسرعة، وتسبح لوقت طويل تحت الماء، ثم تخرج بشعرها الأسود المتطاير حولها. حين وصولها إلى الشاطئ، تجمعه في ضفيرة كي تجففه. بشرتها لامعة، معدنية، مقشعرة من البرد. تشعل سيجارة أمريكية، وننظر إلى البحر الذي كان يضرب الشاطئ، مبعدا فتات الصخور. كانت السماء مغطاة بالضباب، مع شمس حمراء. أذكر أني كلمتها عن البندقية. " لابد أن تكون البندقية بنفس المشهد." خطر لي، بـأنه ربما يكون نفس المشهد في بلدها، في سورية، في لبنان، أو ربما في مصر، هذا البلد الذي لم تتكلم عنه أبدا، كما لو أنها لم تلد في أي مكان.
بعد ظهر أحد الأيام، كنا ممددين على أبر الصنوبر، في التلال، تعانقنا للمرة الأولى. فعلت ذلك بسرعة وبرعونة، كما في السينما. أما هي، قبلتني بعنف، لسانها في فمي، يتحرك كحيوان. كنت مذعورا، مرعوبا، كان في تلك القبلة شيء حميم، شيء لم أشعره مع أي كائن إنساني. فعلت ذلك ثلاث أو أربع مرات، بعد ذلك أدارت وجهها. ضحكت قليلا، وقالت هازئة مني:" أنا الشيطان..." لم أكن أفهمها. كنت منتشيا، خيل لي بأن طعم لعابها يملأ فمي. كان ضوء بعد الظهر براقا. كنت أرى، من خلال جذوع الأشجار، المدينة البيضاء، والبخار الصاعد شيئا فشيئا من البحر، ولمعان آلاف السيارات في الشوارع. نهضت زوبيد راكضة بين الأشجار. تلهو بالاختباء خلف الأشجار والصخور. كان هناك عشاق آخرون في الفسحات المضاءة من الغابة، ومتلصلصون مترصدون. في أعلى التلة، كانت السيارات تمر بهدوء. كانت زوبيد تصعد أكثر إلى أعلى، تختبئ في التجاويف، ملتصقة بالجدران القديمة. أسمع ضحكاتها حين اقترب. كنت أشتهيها، إلا أني كنت خائفا من رفضها. حين يسقط الليل، كنا ننزل إلى المدينة، على الدرج المنثور بحبييات السرو. بينما طيور المساء، تطلق صرخات مقلقة. في الأسفل، نفترق بنزق، دون قول أي شيء، دون تحديد موعد جديد، كما لو أننا لن نلتقي مرة أخرى. تلك كانت لعبتها، لم تكن تريد أن يربطها أي شيء. أما أنا فكنت خائفا من أن أفقدها.
في تلك الفترة، أعطتني صورتها. وضعتها في المغلف القديم الأصفر، وأعطتني إياها قائلة: " خذها، أريد أن تحفظها لي." قلت بسذاجة وبنبرة مشبوبة بالعاطفة:" سأحفظها طوال حيات��." لكن ذلك لم يضحكها. عيونها كانت تلمع بغرابة وبانفعال. أفهم الآن، حين أنظر إلى الصورة، بأنها قدمت لي نفسها. كما لو أنها لم تكن لديها حياة أخرى، ووجه آخر. هذا كل ما تبقى لي منها.
بقيت اللحظات الأخيرة، المحفورة في داخلي، وبالرغم من غموضها، ومن أني كنت أستبعدها، أظن أحيانا أنه قد سبق لي، أني حلمت فيها، ليلة كنت مع زوبيد، على سقف تلك البناية المهجورة، ننظر إلى نجوم المدينة. كيف كان ذلك ممكنا؟ فيما بعد، لم أستطع أبدا إيجاد البناية، لم أفهم أبدا ما الذي حصل لي هذه الليلة، كيف حصل كل هذا. أعتقد أن زوبيد تنبأت بكل ذلك، دون أن تفكر حقيقة فيه، بطريقتها، أريد أن أقول بأنها كانت بالتأكيد تعرف بأننا لا يجب أن نلتقي. بالتأكيد، قررت أن تغادر قبل هذه الليلة، وأن تترك كل الذين تعرفهم، وأن أمها الصامتة يجب أن تذهب بعيدا للعمل، وبأنها لن تعود إلى الشقة الصغيرة في أعلى بناية الهابي ديزhappy days. مع ذلك، يخيل لي بأن ذكريات تلك الليلة هي الأكثر إثارة، الأكثر قربا من عالم صورة المدرسة، أظن أني كنت في تلك الليلة، أكثر قربا منها، من أي وقت آخر. على الشاطئ، شاهدنا الألعاب النارية التي تجري في 14 تموز(يوليو). كان الجو حارا ورطبا، غيوم الصواريخ النارية كانت تتبعثر كالضباب فوق البحر. فجأة، كانت تلك المشاجرة على الشاطئ.كانت جموع من الرجال تتعارك في الظلمة، عرب من جهة، وعساكر من جهة أخرى. حملتنا تلك الجموع نحوها، وجعلتنا نسقط على الحجارة. تعبس الوجوه في لمعان الضوء، فيما اسمع صوت الانفجارات تدوي في كل أنحاء المدينة. صرخات النساء والشتائم تملأ المكان، كنت أبحث عن زبيدة، حين تلقيت لطمة على الصدغ، جعلتني أترنح دون أن أسقط. سمعت صوت زوبيد التي كانت تناديني، صرخت منادية اسمي، مرة واحدة " داوود"، إلى الآن، لا أعرف كيف أخذت يدي، وجرتني إلى البعيد، على الشاطئ. وقفنا بالقرب من الجدار الصاد للأمواج. كانت قدماي ترتجفان. شدتني زوبيد إليها، وبحثنا عن الأدراج للهرب. اجتزنا الجموع قبل أن تعود الأضواء، وركضنا عبر الشوارع، بين السيارات، دون أن نعرف إلى أين نحن ذاهبون.
في آخر هذا السباق، وصلنا أمام تلك البناية، التي لم يكن بناؤها قد انتهى بعد، هيكل إسمنتي فارغ وصامت وسط أرض مهجورة. وعلى السلالم، صعدنا طابقا، طابقا، إلى أن وصلنا إلى الأعلى.كان سطح البناء كصحراء، مليء بالحصى، وبالمخلفات وقطع الحديد الصغيرة. كانت الريح تهب بقوة، ريح البحر، الريح التي تحت الجروف الصخرية. جلست زوبيد متكئة على مدفأة، أو خزان، لم أعد أذكر، وجعلتني أجلس إلى جانبها. كان ذلك باعثا للدوار. كانت هناك ضجة الريح المتقلبة، ضجة الريح القادمة من عمق السماء السوداء، من فوق أسقف المنازل، من فوق الشوارع والطرق الكبيرة.
ابتدأ الليل. بعد حرارة النهار الخانقة، والشهب المضيئة، وضجة الجموع، والمعركة المروعة على الشاطئ، في الظلام. الوجوه العاب��ة، لمعان الشهب النارية، الصفير، الصراخ. كان الليل يحمل معه السلام، خيل إلي بأني كنت في مكان آخر، في بلد أجنبي، حيث سأنسى كل ما يخص هذه المدينة، الشوارع، نظرات الناس، كل شيء يحبسني ويجلب السوء لي. كنت أشعر بالقشعريرة، لكن ذلك لم يكن البرد، إنه الخوف والرغبة. كان هناك ضوء المدينة، كان أشبه بفقاعة حمراء، تكشف الأرض أمامنا. كنت أنظر إلى وجه زوبيد، جبهتها، شفتيها، ظل عينيها. كنت أنتظر شيئا ما، دون أن أعرف أي شيء أنتظر. أحطتها بذراعي، أردت أن أجذب وجهها، إلا أنها ابتعدت عني. أظن أنها فقط قالت " لا، ليس كهذا، ليس هنا....." قالت:" ماذا تريد؟ " كنت أنا من طرح عليها السؤال من قبل. " لاشيء، لاأريد شيئا، إنه من الرائع أن نكون هنا، أن لا نريد شيئا." يخيل إلي أني قلت هذا، أو ربما حلمت به. ريما قلت أيضا: " شيء رائع، لدينا كل الوقت الأن." نقول أشياء كثيرة في الحياة، لكن فيما بعد، كل ما يقال يمحى، لا يعود أي شيء على الإطلاق. هذا ما كنت أريد سماعه، في موسيقى الريح، في هدير السيارات الذي يعلو من شوارع المدينة، مع فقاعة الضوء الحمراء التي تحيط بنا، كما لو كنا في وسط الشفق القطبي الشمالي.
حين يبقى فتى طوال الليل مع فتاة ما، أمن اللازم أن يهمس لها كما في السينما:" أحبك ياحبيبتي" أن يعانقها، أن يلامس ثدييها، أن ينام معها في التلال، مع صوت الريح، و رائحة الصنوبر، و الناموس، أن يمرر يديه على بشرتها الناعمة، أن يسمع صوت تنفسها الذي أصبح أجش، كما لو كانت مريضة، أمن اللازم أن يحدث هذا؟ كنت أرتجف، حتى أني لم أكن أستطيع الكلام. قالت:" أتشعر بالبرد؟" شدتني إليها، وهي تمرر يداها تحت ذراعي. " هل تريد أن نتعانق؟" لمست شفتاها شفتي، وحاولت مع لساني، أن أفعل كما فعلت هي في التلة. فجأة، دفعتني بقسوة، قائلة:" أفعل ما أريده." نهضت ومشت نحو حافة سطح البناء، ذراعاها ممدودتان، كما لو أنها كانت ستطير. كانت الريح تلوح بثي��بها وشعرها، فيما كان الضوء الأحمر يرسم هالة غريبة حول جسدها. خطر في بالي، بأنها ربما كانت مجنونة، إلا أن هذا لم يعد يخفيني. كنت أحبها. عادت زوبيد، وشدت جسدها على جسدي. قالت:" سأنام. أنا تعبة جدا، تعبة جدا." لم أعد أرتجف. قالت أيضا:" شدني بقوة أكثر."
أما أنا فلم أنم. بقيت أراقب مرور الليل. ظلت فقاعة الضوء الأحمر تملأ السماء، مما جعل النجوم غير مرئية. كان هناك شيئا آخر يدور، يتحرك. المدينة مليئة بالصدى كمنزل فارغ. كانت زوبيد تنام فعلا. مخبئة رأسها في تجويف ذراعها، كنت أشعر بثقلها على فخذي. لم تستيقظ، حتى حين وضعت رأسها على معطفي الملفوف، وذهبت إلى الطرف الآخر من سطح البناء كي أتبول في الخلاء، تحت دخان المدافئ.
في الفجر، استيقظت زوبيد. كنت اشعر بالألم في كل جسمي، كما لو أن أحدهم قد ضربني. افترقنا دون أن نقول إلى اللقاء. حين عدت إلى المنزل، وجدت أن والدي لم يناما تلك الليلة. استمعت إلى تأنيبهما، ثم نمت بملابسي. بقيت مريضا لثلاثة أيام. بعد ذلك، لم أر زوبيد. حتى أن اسمها اختفى عن علبة البريد.
الآن، كل صيف يقترب، أصبح وقتا جافا، مميتا. الوقت لا يمر. أجول دائما في الشوارع، اتبع ظل زوبيد، من أجل أن اكتشف سرها، حتى اصل إلى ذلك البناء ذي الاسم المضحك الحزين، happy days . كل هذه الذكريات صارت بعيدة، مع ذلك، فإنها ما زالت تجعل قلبي يخفق. لم استطع أن احتفظ بها، أو أن أخمن الذي كان يجري، أن أفهم الأخطار التي كانت تترصدها، أو تلاحقها. كان لدي الوقت، لاشيء كان مهما. لم احتفظ منها بشيء سوى هذه الصورة المدرسية، حتى هذه الصورة، لم أكن فيها. ذكرى ذلك الوقت أو كل يوم كانت تعني نفس النهار، يوم وحيد من الوجود، والطول، والتلهف، حيث تعلمت كل ما ننتظره من الحياة، الحب، الانطلاق، رائحة البشرة، طعم الشفاه، النظرة الداكنة، الرغبة التي تجعلني ارتجف كما لو أني كنت خائفا.
4 notes
·
View notes